د. عادل الثامري
تُعد العلاقة بين الكاتب والقارئ من أهم العلاقات في الأدب المعاصر، حيث يتجاوز دور القارئ مجرد التلقي السلبي إلى المشاركة الفعالة في إنتاج المعنى وتشكيل الدلالات. وتقدم قصة “وردة سائس صغير” للكاتب قصي الخفاجي، المنشورة في العدد 39 من مجلة الآداب البيروتية للعام،1991 نموذجاً متميزاً لهذه العلاقة التفاعلية، حيث تتجلى فيها عناصر متعددة تؤسس لحوار عميق بين النص والمتلقي.
البناء السردي وتكامل الحواس
يبدأ الخفاجي قصته بجملة مفتاحية “صغيراً رأيته، بعيني”، وهي جملة تؤسس لعلاقة مباشرة بين الراوي والقارئ. فاستخدام ضمير المتكلم وتأكيد الرؤية المباشرة (“بعيني”) يضع القارئ في موقع الثقة بما سيُروى، ويجعله شريكاً في عملية المشاهدة والمراقبة. هذا الاختيار السردي يخلق ما يمكن تسميته “ميثاق القراءة” الذي يربط القارئ بالنص منذ اللحظة الأولى. ويشكل التصوير الحسي المكثف في قصة “وردة سائس صغير” عنصراً محورياً في بناء العلاقة بين النص والقارئ.
تتجلى الصور البصرية في القصة من خلال توظيف الألوان بدلالاتها المختلفة، فاللون الأبيض يظهر في القارب والوردة وشعر الحمار، حاملاً معه دلالات النقاء والبراءة والطهارة. أما اللون الرمادي الذي يظهر في وصف الحمار فيمثل الحياد والوسطية، خالقاً توازناً بصرياً مع اللون الأبيض. وتأتي السترة الزرقاء المبطنة بالفرو لتضيف بعداً آخر يرمز للهدوء والعمق. وتتكامل هذه الألوان مع حركة النهر المتماوجة وسكون المياه وحركة الأنسام، مشكلة لوحة بصرية متناغمة.
يمتد التصوير الحسي ليشمل الإحساسات الجسدية، حيث يصف الكاتب الملمس بدقة متناهية. فالشعر ناعم وناصع وقطني وأملس، والفرو في السترة يوحي بالدفء في مواجهة برودة الظلمة. وتتجلى الحركة في أفعال متتابعة: “يتلوى”، “يمور”، “يضطرب”، مما يخلق إحساساً حركياً يشعر به القارئ في جسده. ويبرز العنصر الشمي في القصة من خلال عطر الوردة البيضاء، حيث يتدرج الإحساس به من مجرد الشم إلى الشم بقوة وصولاً إلى الإحساس باللذة، مما يجعل القارئ يشارك البطل تجربته الحسية الكاملة. هذا التدرج في الإحساس بالعطر يعمق العلاقة بين القارئ والنص، ويجعل التجربة أكثر واقعية وحيوية. يخلق تداخل الحواس في القصة تكاملاً حسياً فريداً، فالبصر يمتزج باللمس في وصف “الشعر الأبيض اللين”، والشم يتكامل مع البصر في وصف “الوردة البيضاء”، واللمس يندمج مع الحركة في عبارة “يتلوى ويغوص”. هذا التكامل الحسي يخلق مشهداً متكاملاً يزيد من انغماس القارئ في النص ويعمق إحساسه بواقعية المشهد.
توظيف الزمن السردي
يمثل الزمن السردي في قصة “وردة سائس صغير” عنصراً جوهرياً في بناء النص وتشكيل علاقته مع القارئ. فقد اختار الكاتب قصي الخفاجي توظيف الزمن الحاضر كتقنية سردية رئيسية، مما خلق حالة من التماهي المباشر بين زمن السرد وزمن القراءة، وأسهم في تعميق تجربة القارئ وانغماسه في أحداث القصة.
يتجلى استخدام الزمن الحاضر في القصة من خلال الأفعال المضارعة المتتابعة: “ينام”، “يتلفت”، “يسحب”، “يرقب”، “يشم”. هذا التتابع الزمني يخلق إيقاعاً سردياً متدفقاً يجعل القارئ يعيش الأحداث لحظة بلحظة، وكأنها تجري أمام عينيه مباشرة. فعندما “ينام” السائس الصغير في قاربه، يشعر القارئ بآنية الحدث، وحين “يتلفت” يتابع القارئ حركته في اللحظة ذاتها، وعندما “يسحب” حماره يشارك القارئ في فعل السحب وكأنه يراه يحدث الآن.
يخلق هذا التوظيف للزمن الحاضر ثلاثة مستويات من التأثير في علاقة النص بالقارئ. المستوى الأول هو المباشرة والآنية، حيث يشعر القارئ أن الأحداث تجري الآن وليست مجرد سرد لماضٍ بعيد. والمستوى الثاني هو المشاركة الفعلية، إذ يصبح القارئ مشاركاً في صنع الحدث وليس مجرد متلقٍ له. أما المستوى الثالث فهو العمق النفسي، حيث يسمح الزمن الحاضر للقارئ بالغوص في نفسية الشخصية ومشاعرها في لحظة حدوثها. كما يسهم الزمن الحاضر في تكثيف المشهد الحسي في القصة. فعندما “يشم” السائس عطر الوردة، يستحضر القارئ هذه الرائحة في لحظتها، وحين “ينظر” إلى بطن الحمار، يشارك القارئ في فعل النظر والتأمل. هذا التزامن بين الفعل وإدراكه يعمق الإحساس بالمشهد ويجعله أكثر حيوية وتأثيراً.
يخلق استخدام الزمن الحاضر أيضاً حالة من التعليق الزمني، حيث تبدو الأحداث وكأنها معلقة في لحظة مستمرة من الحضور. هذا التعليق يسمح للقارئ بالتأمل في كل تفصيل وكل حركة، مما يعمق فهمه للنص ويزيد من انغماسه في عالم القصة. وتصل براعة توظيف الزمن الحاضر إلى ذروتها في نهاية القصة، حيث “يغيب” السائس الصغير إلى ما لا نهاية. هذا الغياب الممتد في الزمن الحاضر يخلق حالة من الاستمرارية التي تتجاوز نهاية القصة.
تقنية السرد المتداخل
يشكل تعدد مستويات المراقبة في قصة “وردة سائس صغير” تقنية سردية متميزة تعمق العلاقة بين النص والقارئ. ويخلق هذا التعدد طبقات متداخلة من الرؤية والمشاهدة، تمنح النص عمقاً خاصاً وتفتح آفاقاً متعددة للتأويل والفهم. يبدأ المستوى الأول للمراقبة مع الراوي الذي يفتتح القصة بقوله “صغيراً رأيته، بعيني”. هذا التصريح المباشر بفعل الرؤية يؤسس لعلاقة مراقبة مباشرة بين الراوي والسائس الصغير. يتابع الراوي حركات السائس الصغير بدقة متناهية: كيف ينام في قاربه، كيف يغرز وردته في سترته، كيف يتعامل مع حماره. هذه المراقبة الدقيقة تؤسس للمستوى الأول من السرد، وتضع الأساس لباقي مستويات المراقبة. وفي المستوى الثاني، نجد السائس الصغير نفسه في موقع المراقب. فهو يراقب النهر وخيوطه المتماوجة، يتأمل حماره وشعره الأبيض الناعم، يرصد حركة الأنسام وتغيرات الضوء والظلام. هذه المراقبة تكشف عن علاقة خاصة بين السائس وعالمه، علاقة مليئة بالتأمل والاكتشاف والحساسية المرهفة. أما المستوى الثالث فيتمثل في موقع القارئ الذي يراقب المشهد كله: يرى الراوي وهو يراقب، ويرى السائس وهو يتأمل، ويرى العلاقات المتشابكة بين كل هذه العناصر. هذا الموقع المتميز يمنح القارئ رؤية شمولية للمشهد، ويجعله قادراً على إدراك الطبقات المختلفة للمعنى.
يخلق تداخل مستويات المراقبة تأثيرات مهمة في النص. أولاً، يمنح النص عمقاً بصرياً خاصاً، فكل مستوى من المراقبة يضيف بعداً جديداً للمشهد. ثانياً، يخلق تعدداً في وجهات النظر، فما يراه الراوي قد يختلف عما يراه السائس، وما يراه القارئ قد يجمع بين الرؤيتين ويضيف إليهما. ثالثاً، يفتح مجالاً واسعاً للتأويل، فتعدد المراقبين يعني تعدد القراءات والتفسيرات. يتيح هذا التعدد في مستويات المراقبة للقارئ بالتنقل بين المواقع المختلفة: فتارة يتماهى مع الراوي في مراقبته للسائس الصغير، وتارة أخرى يشارك السائس في تأملاته وانطباعاته، وتارة ثالثة يأخذ موقعاً خارجياً يسمح له برؤية المشهد كله. هذه الحركة بين المواقع المختلفة تثري تجربة القراءة وتجعلها أكثر عمقاً وتنوعاً.
كما يسهم تعدد مستويات المراقبة في خلق إيقاع سردي خاص. فالحركة بين المستويات المختلفة تخلق تموجات في السرد، تتناغم مع تموجات النهر في القصة، وتعكس حالة التأمل والترقب التي تسيطر على النص. هذا الإيقاع يجعل القراءة تجربة حية ومتحركة، تشبه حركة العين وهي تنتقل بين تفاصيل لوحة معقدة. وتصل أهمية تعدد مستويات المراقبة إلى ذروتها في نهاية القصة، حيث يغيب السائس الصغير إلى ما لا نهاية. هذا الغياب يُرى من خلال كل المستويات: يراه الراوي كحدث خارجي، ويعيشه السائس كتجربة ذاتية، ويدركه القارئ كلحظة مفصلية تجمع بين الرؤيتين.