غادة م. سليم
فتحت باب شرفتها الزجاجي المطلة على الشارع لتسقي الأصص الفخارية التي تحرص على زراعتها كل سنة، فلاحت لها رؤوس زهور النرجس وهي تتمايل مع نسيم شهر نيسان حيث بداية الربيع. كان عبق النرجس القطمر قد ملأ المكان.. فكأنها فتحت نافذة الماضي وتسلل إليها عبق الذكريات.. رائحة ذكّرتها بالنزهات الماضية في الطريق إلى الشمال حيث باعة الزهور الصغار على جانب الشارع يصنعون منه قلائد أو باقات صغيرة يشتريها المارة منهم.. همست يا ترى هل ما يزال النرجس في أيدي الصغار أم جفّت أياديهم الصغيرة ولم يعد ندى الورد يرطّبها؟ تذكرت الذي كان يصنع لها اطواقا من النرجس ويضعه على شعرها وقلائد على جيدها وأساورا يلف يدها بها.
سمعت صوت بائع متجول ينادي على بضاعته ولم تفهمها أول الأمر واعتقدت أنها مزحة.
كان البائع ينادي: من يشتري برتقال ابودمعة.. إنه يجلب الحظ والرفعة ويعطيك الحب والمتعة. تعجبت لأنها لم تسمع بهذا النوع من البرتقال سابقا.. سمعت عن البرتقال أبوصرّة والبرتقال الدموي ويسمى دم الزغلول أحيانا ولكن هذا كان اسماً غريباً على أذنها.. نادت البائع وسألته:
– ما هذا البرتقال؟ لم أسمع بهذا النوع سابقا؟ هل هو مستورد من خارج البلاد أم من هنا؟
وقد– سيدتي هذا نوع جديد لا يثمر إلا من شجرة وحيدة على طريق الجبل حيث الدير المشهور(1)
أثمرت هذه السنة وهذا أول ثمارها، يقال قد غرسها عاشقان على أمل أن يعودا إليها كل سنة ولكنهم لم يأتيا أبدا وتركاها تنمو غريبة بين أشجار التين اللواتي حاولن قتلها ولكنها صمدت وأثمرت والآن تأتي إليها الفتيات ليقدمن لها النذور ليحصلن على عاشق مخلص وكلما تزيد النذور يزيد الثمر.
ــ إذن هو برتقال عادي من أين أتت قصة الدمعة؟
ــ لا أعلم يا سيدتي أنا أبيع البرتقال ولا أعرف قصته.. اذهبي إلى الشجرة التي أصبحت مزاراً وشاهديها بنفسك إنها على الجبل في الشمال.. سيدلك الكثيرون عليها.
اشترت برتقالتين وعادت إلى شرفتها.. أغلقت باب الشرفة وارتمت على أول مقعد.. تسارع نبضها وتجمعت حبات العرق على جبهتها وتزاحمت الأفكار والذكريات وتمتمت غير معقول.. غير معقول هل هذه هي بذرة الحب التي غرساها قبل خمسين عاما… ظننت أنها قد ماتت.. تفاجئني بالنمو.. انقلع قلبي وأحاطته جذورها القوية وخرجت الشجرة بحسرة حارة من فمي لتعلن لي بأنها لم تمت.
وضعت البرتقالتين في إناء الفواكه وتمنت أن ترى هذه الشجرة الغريبة وعزمت على الذهاب في الصباح الباكر.
وما أن بدأت تباشير الفجر بالظهور وأصبح الصباح حتى قفزت إلى سيارتها مدفوعة برغبتها للمعرفة مستعينة بذاكرتها فهي تحفظ الاتجاه والطريق المؤدي إلى الشمال وإلى تلك التلة الأثيرة إلى قلبها… لم تجد أطفال النرجس على جانبي الطريق وكانت تمني النفس أن تشتري باقات منه حتى وصلت إلى نقطة من الطريق لا بد من أن ترتقي الجبل المقلوب(2) على الأقدام..
تسلقت الصخور والطريق يبدو أمامها رفيعا ملتويا وهي تنظر بين فترة وأخرى إلى الأعلى حيث يتوج الدير أعلى الجبل ورأت من بعيد عدداً من النسوة يشكلن مجموعات صغيرة حول شجرة وارفة فعرفت أنها وصلت إلى غايتها وأسرعت في التسلق حتى وصلت ووجدتهن يتحلقن حول الشجرة فهناك من تبيع الشرائط التي تربط حول الأغصان وهناك من تكتب الأمنيات والأحلام بخط جميل على وريقات صغيرة ثم تشبكها الفتيات بالشجرة وأخرى تبيع التعاويذ لتدسها الفتيات في ثيابهن.
جلست وأسندت ظهرها إلى الشجرة وهي تنظر إلى الفتيات وهن يربطن أمانيهن بشرائط حول أغصان الشجرة يتعلقن بجذعها ويلعقن الدمعة الحلوة التي تتقاطر من البرتقال كلما كثر احتضان الشجرة.. مدت يدها وتذوقت قطرة مندلقة على ساعدها.. كان للرحيق تأثير هائل نقلها إلى ماض بعيد تخيلت أنها قد نسيته وتذكرت ما حدث في هذه البقعة من العالم.. أخذت قبضة من التراب من تحت الشجرة واستنشقت رائحته وأغمضت عينيها لتتذكر كل خطوة وكلمة قيلت هنا. تمتمت بصوت مسموع:
ــ هل هذا قلبي المتحجر ينشق ليخرج برعم الحب منه وتزهر عروقي؟
تعود إلى الماضي حيث كانا يمشيان معا يتدافعان ويتضاحكان بمرح وهما بطريقهما للصعود لتلة أثرية يسبقها ثم يمد يده لتتعلق بها.. يبطئ في المشي فتظن أنها قد سبقته ولكنه بقفزة واحدة يصبح أمامها ويقهقه عاليا ساحبا إياها إلى جنبه.
عندما أضناهما التعب جلست تقشر برتقالة ناضجة أخرجتها من حقيبتها الصغيرة وهو يراقب يديها الناعمتين وهي تحاول التخلص من القشر. فاحت رائحة البرتقال بينهما وأشاعت جوا من الألفة والحميمية. دنا منها وهمس بأذنها:
ــ حبيبتي.. أنت الوحيدة التي علقت بها وتورطت بحبها.. منذ أن التقت عيناي بعينيك وحرت بلونهما.. تضيئان فجأة وتلمعان فأفقد تركيزي على الحديث. أتابع أشعتك أين تذهب وتأخذني معها.. أسبح في فضاء آخر وأجد نفسي مسحورا كالأبله وأنا أحاورك وأتشعب بالحديث لأطيل فترة بقائي أمامك وأنت تعرفين وتبتسمين من حيرتي ورغبتي التي تفضحني.
لم تجب مباشرة مما أغاضه قليلا ولكنها رفعت رأسها وأكملت تقشير البرتقالة وقسمت البرتقالة إلى قسمين أحدهما يتجلى به الغروب والنصف الآخر ينام فيه الشروق.
مدت له يدها تعطيه نصف البرتقالة وقبل أن يأخذه، حط غراب بينهما وخطف نصفه…حزنت وخافت وأحست أنه نذير شؤم…
لا عليك يا حبيبتي انه ليس الا طائر جائع خطف حصتي.
قبل يدها المعطرة بالقداح. وأخذ قضمة من برتقالتها… قبل شفتيها المكتنزتين وتسلل العصير إلى فمها..
لم يكن في البرتقالة غير نواة واحدة مسكتها وقبلتها ودستها في يده.
حفر حفرة صغيرة ووضع نواة البرتقالة بها وغطاها بكفيه…سألته:
– ماذا تفعل؟ هل تعتقد هذه الحبة ستنمو بهذه الأرض الجبلية.. من سيسقيها؟
ــ ادفئها.. كي تنمو.. ضعي يدك على يدي كي تحس بالحب والدفء!
نظرت إلى يده وأصابعه الطويلة التي يكسوها الشعر الخفيف وانحنت لتقبلهما.
همس لها:
ــ لو زرعت عمري في تربة الحياة فستكونين أنت زهرتها العطرة.
بان مفرق شعرها.. انحنى وقبله وغاص وجهه بين طيات شعرها حيث يطوي الليل أسراره بينه.. شعرت بحرارة أنفاسه فرفعت وجهها وبشفتين ملتهبتين قبلها متعجلا قبل أن تبتعد..
كان طعم قبلته لا يشبه أيّ فاكهة سبق لها أن تذوقتها…لم يستجب اللسان فقط وإنما كل الخلايا الحسية لها.. حتى أصابع قدميها أحست بالدغدغة وكادت ترتفع عن الارض.. لذة لم تذكرها الكتب السماوية ولا الأرضية…. إحساس أثيري.. حولتها إلى بخار أو دخان ملون طار بها إلى الفضاء كتلك التي تتصاعد من الألعاب النارية، كانت تتأرجح بين يديه كالرؤيا أو الطيف يكاد يشك بحقيقة وجودها لولا ذلك الغراب القابع على كتفها حتى عندما تبعد وتصبح غيمة يطل منها كنقطة سوداء تعكر بهاء المشهد.
أنتِ الغيمة التي ستحملني لأشاهد العالم وأمطر حيثما أريد وأملأ الدنيا ألوانا.. أنتِ الجبل الذي سأستند إليه مطمئناً لقوتهِ وصعوبة الوصول إلى قمته.. كالنهرِ الجاري كالماء الرقراق أرى وجهي به.. كالموجةِ أغسلُ ذنوبي وألقي أحمالي على سواحلكِ الفضية الناعمة.
ــ يجب أن نكمل الطريق قبل المغيب هيا نعاود الصعود.
قال الجملة بسرعة.. نهض وتقدم الطريق.. أجابته:
تمهل لنسلك الطريق الآخر ونتسلق الجبل بدلا من الدوران حوله.. أعلم أنه أصعب ولكنه أمتع.
ــ لا.. سنلتقي هناك..
افترقا… وقبل أن يرحل دس بيدها نرجسة وضعتها بين طيات كتبها واوراقها وزهورها المجففة، طمرتها ولكنها أثمرت زهرات مكتوبة تعانقت كلماتها وقبلاتها مع رواتها وبعناد أوردت الحروف وأصبحت تراه بين السطور كلما فتحت كتابا.
طافت بها كل هذه الذكريات ولم تنتبه إلى خلوّ المكان من الفتيات ولم يبق سوى بضع صغيرات يلملمن ما تبقى من الشرائط ويقطفن زهور النرجس… قطفت برتقالة واحدة، جمعت فيها كل ذكرياتها، أخذت دمعة من الشجرة ووضعتها على شفتيها وكأنها تلعق قعر قدح الحياة عسى أن تجد قطرة حب نسيها الزمان وجاد بها القدر. عاودت المسير بنفس الطريق الملتوي نزولا حتى وجدت سيارتها وبدأت طريق العودة.
تذكرت كيف أشهر الزمن نصله الحاد في وجهها وغرزه القدر في قلبها وهربت من تلك الغيمة السوداء التي لفت البلاد بعباءتها وأمطرت رذاذا متفحما لون قلبه بلون السخام وقده حتى أصبح كلؤلؤة سوداء مثقوبة.
تحولت بعدها إلى حمامة وطارت من يده تلاحق الغيمة والقمر في السماء الوردية… ولم يعثر عليها أبدا.