د. فلاح الحسن
ينفثُ دخانَ سيجارته التي حافظَ عليها أكثرَ من ساعةٍ قَبلَ أن يشعلها ليستمتع بها على هواءِ المروحةِ المعلقةِ في سقفِ الغرفةِ بَعدَ أن أخذَ منه حر تموز مأخذا، وحتى لا يضطر للبحثِ عن مصدرٍ آخر للسجائر التي كانت حسب نظره الملجأ الأخير والوحيدة التي تشفي غليله وتقللَ من حنقهِ على كُلِ شيءٍ يدورُ حوله. يتحولُ الدخانُ إلى دوائر صغيرة ثم تتلاشى في هواءِ الغرفةِ الرطبةِ الفارغةِ إلا من بعضِ الصورِ المعلقةِ منذ زمنٍ بعيدٍ على جدرانِ الغرفةِ بشكلٍ غير منتظم وقد عَلاها الترابُ وتركتْ أثراً على الحائطِ ونَسجَ العنكبوتُ خيوطه ليصطادَ بعض الحشراتِ ما بين أطراف الصور والحائط. يأخذُ نَفَسَاً عميقاً وكأنه نفسه الأخير في هذه الحياة ويرتفعُ صدره لكثرةِ ما سحبه من دخانٍ ليملأ رئتيه بالنيكوتين والقطران ممزوجاً بغازِ الكاربون ويستقرَ في صدره ليَخرُجَ بعدها على دفعاتٍ متناسقةٍ وكأنه يتوسله أن يبقى أطولَ فترة ممكنة في رئتيه ينخفضُ صدرهُ بعدها وتَلتَفُ حولَ رأسهِ كمية كبيرة من الدخان الأبيض. كأنه يريد أن يحيطَ نفسه بهذا الدخان ليتنفسه من جديدٍ محاولاً عدمَ التفريطِ به ولا يُريده أن يبتعدَ عنه في هواء الغرفة، يَشُدَه اليه بحبالٍ غير مرئية يناشده أن يبقى مُحيطاً به ليرجعه كَرّة أخرى إلى جهازه التنفسي. يُنزلُ يده التي تحملُ السيجارةَ ويفتح فمه ليستنشقَ ما نفثه قبلَ ثوانٍ بفمهِ وأنفهِ ويَدخُلُ في عالمٍ آخرَ بعيداً عن ضوضاءِ الأطفالِ في الشارعِ الملاصق لجدار الغرفة. كان يسمعُ كلَ ما يجري في الشارع؛ أنواع الشتائم والسباب التي تتطايرُ من أفواه أولادِ المحلةِ في خصوماتِهم وكذلك نزاعات النسوة بعد معارك الجيران اليومية. لم يكن يحتاج الخروج إلى الشارع ليعرفَ أطرافَ النزاعِ فقد كان يميزُ أغلبهم من أصواتِهم التي تَرنُ في اذنيه من الفجرِ حتى يخلدوا إلى النوم. كان صراعُ الشارعِ وسيلةً من وسائلِ الترفيهِ وكذلك طريقة يتبعها الأهلُ للتخلصِ من عددِ الأطفالِ الكبير الذي لا يَسعه البيت، فيطلبون منهم الخروج واللعب في الشارع فيتحول كلُ شيء بين أرجلهم وايديهم إلى لعبة حتى لو كان مجرد حجر يرمونه على بعضهم البعض ليشقَ هامةَ هذا أو ذلك أو ليستقرَ في وسطِ الغرفةِ بعد أن يَكسُرَ زجاجَ النافذةِ الوحيدةِ المطلةِ على الشارعِ نفسه.
لا أدرى أن كان يحقُ لنا تسمية المكان الذي يَجلُسَ فيه غرفةً فهي خليطٌ بين الممرِ والغرفةِ والصالةِ ومكانِ تناول الطعام ومهجع ينامُ فيه الجميع، يمكنك أن تسميها ما تشاء فهي تقع مباشرةً بعدَ البابِ الخارجي وكلُ من يدخلَ أو يخرجَ من البيتِ عليه أن يمر بها. يستخدمونها لاستقبال الضيوف ومكان لجلسات العائلة في ليالي الشتاءِ الباردةِ، تتوسطها مدفئة نفطية تبعثُ الدفء في انحائِها كما يلتفُ حولَها الأطفالُ في أحيانٍ كثيرةٍ، ويضعون عليها بقايا الخبزِ الباردِ ليأكلوه مع الشاي بَديلاً عن المعجنات أو ليسدوا جوعَهم المزمن. يتحولُ المكان ليلاً إلى غرفةِ نومٍ للعائلةِ ويرقدُ الجميعُ بتسلسلٍ طردي مع الأب والأم من اليمن إلى اليسار يَليهم أصغر طفلٍ إلى أن يصلَ التسلسلُ إلى أكبرهم سناً ثم ينتقلُ من تجاوزَ عمرهُ الثامنة عشر إلى إحدى الزوايا! كانت غرفة في بيتٍ والأحرى بيت في غرفة! منها تذهبُ إلى غرفةِ البيتِ الثانية التي يَسكُنها الأخُ الأصغر مع عائلته الكبيرة أيضا. يأخذُ التلفازُ العتيدُ مكانَ الصدارةِ في إحدى زواياها حيث كانوا يتجمعون في الأماسي الباردة قَبلَ أن يسحبَ الهاتفُ النقال العيون والأفئدة إليه، وباتَ افرادُ العائلةِ كُلاً مع نفسهِ منعزلاً يعيشُ عالمه الخاص وهو يغوصُ في محتويات الهاتف. حتى الكلام أصبحَ بلا طعم ورائحة فالجميع يتكلم دون أن يرفعَ عينيه عن شاشةِ الهاتف.
ينظرُ في أقصى زاويةِ الغرفةِ بَعدَ أن اتكأ على يدهِ الشمال يَجترُ أيامَ شبابهِ التي قضاها هارباً من الجيشِ تارةً وتارةً أخرى بين أصواتِ القذائفِ المنفلقةِ قريباً منه وهو يجلسُ في حفرتهِ الصغيرة وأصوات المدفعية وهي تردُ على مصادرِ النيران. كان يتسلى مع رفاقه في السلاح بما يجري رغم قساوته وما تحمله هذه القذائف من نهايةِ لكلِ أحلامهم فيتناوبون على معرفةِ مكان سقوطِها من قوةِ وطولِ صفيرها. فاذا كان الصفيرُ طويلاً يعني أنها ستقعُ بعيداً عنهم وإذا كان قصيراً خافتاً فأنها ستسقط قريباً منهم أو فوق رؤوسهم. يَعقبُ الصفيرَ صوتُ الانفجارِ الذي أصبحَ جزاءً من حياتهم اليومية؛ يمزقُ الأجسادَ الغضةَ الطرية وينشرُ رائحةَ الدمِ في المكان. قد تسقطُ عليهم بقايا اصحابِهم من الخندقِ المجاور؛ كف كاملة أو إصبع أو قدم أو حتى رأس بتفاصيله ليقوموا بالبحث عن الأجزاء الاخرى بعد أن يتوقف القصف أو يقوموا بترقيعه من بقايا جسدٍ آخر! قرصُ الهويةِ المعدني الذي يعلقهُ الجنودُ حولَ أعناقِهم يساعدهم كثيراً في معرفةِ هويةِ الشهيد. أسم الحبيبةِ التي كان أغلبهم ينقشه على صدره أو على كتفه أو على باطنِ ذراعه أيضاً كان جزءاً من حلِ شفرةِ الهوية من أقرب أصدقائه الناجين بعد أن قصَ عليه في هزيعِ من الليلِ الفائتِ كيفَ طبعَ آخرَ قبلةٍ له على خدِها المتوردِ خَجَلاً قبل أن يلتحقَ من اجازته الأخيرة. وكيف رافقها بنظراته إلى أن دخلتْ البيتَ واخذتْ معها روحَه التي بقيتْ عالقةً على جيدِها بَعدَ العناقِ الأخير وهي تسحبُ يدَها ببطءٍ شديدٍ من يده المتوترةِ الملتهبة مصوبةً رأسها نحوه لكن جسدها استدارَ بالاتجاهِ المعاكسِ ثم أرجعتْ رأسها بصعوبةٍ كبيرةٍ إلى وضعهِ الطبيعي باتجاه بيتها بعد أن كان متسمراً نحوه!
حاولَ جاهداً مرات كثيرة الهرب من هذه الحرب العبثية التي اقتلعته من ريعانِ شبابه ورمته على جبهات القتال الحامية. أخذته بعيداً عن فتيات الحي الذي يسكنه بعد أن كان يتبخترُ ممشوقَ القامةِ فارع الطول في الطريقِ المؤدية إلى سوقِ المحلةِ القريبِ بشعره الطويل نسبياً بعد أن تركه ينمو ليغطي جزءاً من اذنيه وينزلُ ممتداً قليلاً على رقبته من الخلف، رغم رفض أبيه القاطع لتسريحةِ الشعرِ هذه والقَصّة الغريبة على مفاهيمه وهو القادم من عمقِ الجنوبِ وقصبهِ الضاربِ في اقصى مديات الهور. أصرَ على الاحتفاظِ بشعرهِ الطويلِ رغم تعرضه لأنواعِ العقوبات ليغوي به الفتيات ويُسايرَ أبناء جيلهِ من الشباب في تلك الفترة المليئة بالحيويةِ والنشاط. كان يقضي أغلبَ أوقاتهِ بَعدَ عودتهِ من العملِ الذي بدأ يمارسه بَعدَ فشلهِ في إكمالِ دراستهِ بين كرةِ القدمِ والتسكعِ في شوارعِ بغدادَ ودورِ العرضِ السينمائية ليذهبَ بعدها مع رفاقهِ إلى شارعِ أبي نؤاس المحاذي للنهر، حيثُ تنسابُ المياهُ رقراقهً بين الضفتين، يجلسون ويروون قصصَ العشقِ الأخضرِ الندي ومغامراتهم مع بنات الحي وهواجسهم. المثير في الأمر أنهم لا يسمحونَ لأي غريبٍ أن يغازلَ بَنات المحلةِ التي يقطنوها، فاذا مرَ شابٌ مرتين في الشارعِ فإنه يُعرّضُ نفسه لأنواعِ الضربِ إذا كَرَرَ فعلته مرةً ثالثةً! وقد يصلُ الامرُ إلى استخدامِ الأسلحةِ البيضاء كالسكاكين والقبضاتِ الحديدية التي كانت منتشرةً في تلك الفترة بعد أن تحولتْ في أيامنا هذه إلى أسلحةٍ ناريةٍ مختلفة الأنواع والاحجامِ مع فقدان سلطةِ الدولةِ على المدينة.
يعودُ بنظره إلى سيجارتهِ ويرمي مخلفات التبغِ الملفوفِ بالورقِ المحترقِ في نفاضةِ السجائرِ أمامه بعد أن يضربها بطرفِ المنفضةِ لينزلَ الرمادُ إلى داخلِها ويعودُ ليأخذَ نفساً آخر منها يكوي به لوعاته وكبواته وارهاصاته وما يعتمرُ فوأده من الحنين المر. كانت السيجارة تمثلُ له الشيء الكثير وكأنه يتحدثُ معها:
“هيا ادخلي جوفي افرغيه من بقايا الروحِ وخذي معكِ ما تبقى من حياة! لا تتركي مكانا ًبعيداً في زوايا القلبِ إلا بَعدَ أن تأتي عليه بلهيبِ ناركِ وحرارتِها. أريدُ أن احرقَ بجمركِ الأحمرِ الملتهبِ ولظاكِ القهرَ الخافي بين حنايا القلب ويُصَيره قاحلاً فارغاً من علامات الحياة إلا من دقاته المؤشر الوحيد على بقائه في هذا الوجود”.
يعبرُ أحدُ الأطفالِ الغرفةَ راكضاً إلى خارجِ البيتِ ماراً بها ليقطعَ عليه خلوته مع نفسه.
– يا أبا محمد، لماذا أنت سرحان ومهموم؟
– لم أعاشر زوجتي منذُ زمنٍ بعيدٍ، كنت إذا اشتقتُ اليها أناديها بحجةِ أن تفرك ظهري في الحمامِ الوحيد في البيت، وهو المكان الذي كنا نهربُ إليه بعيداً عن انظارِ الأطفالِ وأفرادِ العائلةِ الآخرين الذين ازدادوا عدداً وكبروا عمراً وصاروا يفهمون كل ما يجري حولهم والآن عليك أن تقف في الطابور ليصلك دور الذهاب إلى الحمام لتنتهي بذلك آخر فرصة لان اختلي بها واعيش انسانيتي المفقودة! قالها وغادر بعيداً روحاً لا جسداً وبقي على جلسته متصلباً ممسكاً بسيجارته رغم أنها وصلتْ نهايتها ولم يتبق منها إلا الرماد! وحامتْ روحهُ الطرية حولَ جسدهِ المتخشب تستنشقُ آخرَ قطرةِ نيكوتين وقطران ودخان عالقةٍ في هواءِ الغرفة!