ما إن وضع الوباء اللعين قدمه في باب مدينتنا، حتى توجه إلى أعلى القمة، متسلحا بتاريخ حافل بالفواجع والمواجع التي لم تغب عن الذاكرة، رغم كل تلك السنين التي مضت. أول باب طرقه، كان باب المنزل صاحب الأضواء العالية التي يسترشد بها التائهون والعابرون والسابلة. ذلك البيت الذي يعتلي قمة التلة، رغم كل محاولات الصمت، كسر الضجيج المزمن فيه، بقي، حيا، يمارس فن الجذب، لكل من يشعر بالحاجة وطلب الأمن والأمل. بقي ساعيا إلى بث الضياء والنور في كل بقعة من الليل، حتى النهار، كان يطلب منه أن يبقي ذلك النور مستيقظا في ساعاته. إنه بيت العائلة التي فجعت قبل أيام بانطفاء أربعة أقمار من سمائها في بضعة أيام، بسبب الوباء اللعين الذي قرر البقاء في ذلك البيت، أطول مدة ممكنة. وليت الوباء هو من كان السبب الوحيد في تلك الفاجعة الأليمة، بل الاهمال والتقصير وغياب الحس الاخلاقي والانساني، لدى مؤسسة مهمة كالصحة، عندما تترك منتسبا فيها، يصارع الموت لوحده، دون أن تتحرك ساكنا..
أول قمرين سقطا، مربيتان، أفنت كل منهما عمرها في صناعة أجيال، وصناعة إنسان قادر على مواجهة ذاته، عارفا بأن قدره يكمن في أن يكون مختلفا عن الآخرين، مدركا بأن بقاءه في مكان واحد، يخدش قيمته كإنسان، خلق لأجل أن يستمر بالمشي والسعي نحو مكان قريب من السماء. ليست وحدها الصحة تتحمل فاجعة الأقمار الأربعة فقط، بل كل شخص، قبل أن يتصدر المسؤولية، وهو لا يملك شيئا من أبجديات المسؤولية. سمحوا للدوائر بالمباشرة، والموظفين بالدخول إلى دوائرهم، بكل أريحية، وكأن لا وباء ولا مرض معدٍ يهدد حياة الناس. فكان القمر الأول، يمارس هوايته في جمع الضياء لينثره في حقله الأول والأخير: طلابه وتلاميذه، الذين ينتظرون منه نورا يساعدهم في تخطي الظلام الذي نشره الوباء في حياتهم وأرواحهم. وتوالى الألم، الذي لم يقف عند حد، ولم يكتف الموت بقمرين، كانا ينيران الدروب لكل طالب علم ومعرفة، فانتقل إلى فحل من فحول النزاهة، قامة من قامات العلم والاكاديمية، رجل، قلّ نضيره، كان يملك كاريزما غريبة، تجعله يؤثر في كل من يعرفه، يملك قدرة عن أن يجعل الواقف أمامه، ينصت إليه برغبة ورهبة. رحل هو الآخر، تاركا خلفه، فراغا كبيرا، في كل مكان كان يقصده. وهل وقف الوباء عند هذا الحد؟ أبدا، فقد رحل آخر قمر، وهو قلعة من قلاع الطب، حصن من حصون الانسانية، طبيب، يملك من القدرة والقابلية عن انقاذ ما يعجز الآخرون عن انقاذه، يملك امكانية إبقاء الروح التي توشك مغادرة الجسد، بما منحه الله من قوة عجيبة على مصارعة الموت والانتصار عليه. رحلت تلك القلعة، بعد أن تركه زملاؤه أسير كورونا، يقاتله لوحده. بقي في أيامه الأخيرة، يعاني الخذلان والحاجة إلى نفس بارد، يطفئ نيران المرض. وللأسف، كانت نار الوباء أشد وأقوى، فأتت على القمر الأخير، ليسقط هو الآخر. ولكن: أين سقط؟ سقط في سماء أخرى، أكبر وأعظم من السماء التي كان محلقا فيها، في سماء قريبة من الله.
سلام مكي