الاستحواذ على كامل جسد اللوحة في طرح الدوال، وتحويل متن اللوحة إلى غابة متشابكة من المحمولات الإشارية والبنى الترميزية، هذا ما يقوم عليه فهم الفنان، إياد الزبيدي، لبناء اللوحة، وهو أيضا طريقته للتشخيص والطرح داخل فضائها ومقولاتها.
في هذه اللحظة من عمر منجز إياد الفني، أنا أتحدث عن آخر لوحاته التي تعج بسطوة الجسد وإشراقاته التعبيرية ومحمولاته الرمزية التي ضخها داخل بنى ومعمار لوحاته، ليس كأيقونة جمالية وحسب، بل ولما تكتنزه ذاكرة المجموع الاجتماعي حوله من مفاهيم فضائحية وإثمية أيضاً، كموضوع وحقل جنسي، يستأثر بالنصيب الأوفر من اللغط والمحاججة الاجتماعيين، وهو الموضوع الأكثر قابلية للتداول والأخذ والرد، وخاصة إذا ما تعلق برموز السلطة أو بخلفية سياسية.
في اشتغالاته الأخيرة بالذات، تعامل الفنان إياد مع اللوحة على أنها مجتزأ تعبيري، مختطف أو مقتطع من كلٍ كبير وواسع، لذا فإنه عمد إلى استغلال كامل مساحة اللوحة، بضمنها الفراغات التكوينية والإزاحية، والتي حملها مسؤولية طرح الأسئلة، باعتبارها – الفراغات – الجزء الأكثر جدلاً داخل لوحته الفنية، وداخل نسيج رؤيته الثقافية أيضا.
استغلال كامل مساحة اللوحة
مساحة التكوين، وهي مساحة موضوع اللوحة، في أغلب أعمال إياد الزبيدي، تستحوذ على كامل مساحة اللوحة، وهي محاججة رؤيوية تميز معظم لوحات هذا الفنان، إضافة إلى كونها ميزة أسلوبية في استثمار جسد اللوحة، بالموضوع ومقولته، من دون الاعتماد على الإيماءات (الجسدية) المبهمة واشتغالاتها الإشارية، التي قد تتسرب من انتباه المتلقي أحياناً، كونها تبدو كدالٍ مقصى أو مُزاح عن نواة اللوحة؛ وبدلاً عن تلك الإيماءات يستخدم الفنان الإيماءات التجسيرية التي تبرز، عبر “فكرات” العمل “التي تشكل حيثيات اللوحة” كروابط لوحدة الموضوع ومقولته الكلية.
الوحدة التشكيلية – الإنشائية للوحات الفنان إياد تعتمد مفردات تكوينية محلية / رافدينية، ليس من أجل منحها هويتها المحلية بالدرجة الأولى، بل لأنها تمثل أدوات توصيل خصبة لرويته الخاصة، وخاصة في لوحاته الأخيرة التي اعتمدت توظيف ومجادلة البنى الأسطورية للثقافة الإنسانية، في جانبها الوجودي، كلوحته “زهرة عباد الشمس” ولوحتيه “الخطيئة وكأس نبيذ” اللتين تجادلان فكرة الخطيئة الأولى، وتنتصران لبراءة الجسد من تهمته الميثولوجية والتاريخية وتخلصان إلى أحقيته، في كونه كياناً عيانياً وموضوعاً قابلا للفعل والتفاعل بالفطرة، وبهذا فهو بريء من فعل الخطيئة المسقطة عليه من الخارج.
وبغض النظر عن وحدة أرضية أو خلفية اللوحة، فإن موضوعات الفنان الزبيدي تتصدى لطرح رؤيته ومجادلاته الوجودية، وخاصة في معرضه الأخير “عشق بهار” المستوحاة لوحاته من رواية الروائي المبدع أمجد توفيق. ولوحاته اللاحقة لذلك المعرض، وهي، لوحاته، تَجِّدُ في عرض رؤيته، بثوب الأسئلة، لحركة المصائر البشرية ولتقاطعاتها الوجودية: الإنسان هنا وبكل إرثه ليحاجج ويدافع، لا ليستسلم أو ليقبل بنصف وجود أو وجود معتم.
يقرأ إياد الزبيدي في لوحاته الإرث التاريخي والميثولوجي العنيد أو المقاوم للإزاحة وتلامساته لإشكالية الإنسان الوجودية، ولكنه يحرص على إبقاء أسئلته (كفاعل توريطي)، مضمرة، وكأنه يستدرج المتلقي إلى وقيعته الكبرى، وقيعة السؤال الفلسفي، استدراجاً مخادعاً، كي لا يصدمه بخبيئة العمل بطريقة مباشرة، بل يورطه، عبر ذاكرته ويسحبه من خيوط أوجاع اسئلته الصامتة ليضعه في مواجهة معها، دون قصدية مباشرة… وهذه هي وقيعة الفن الأنيق.
وإذ يستعير الفنان الزبيدي، الرموز الفاقعة من بين صفحات الكتب المقدسة، كتفاحة الخطيئة وكأس نبيذ الخلاص، فإنه يسعى لعملية مجاورة للقناعات القلقة، التي اكتسبت شرعيتها في العقل الجمعي بالتراكم الزمني، قبل أن يفاجئ هذا العقل المسترخي بخضة الإيقاظ على (ألوان ثيابه) التي تشبه ألوان ثياب الإمبراطور التي تقول: إنها ألوان ما بعد أكل التفاحة يا جلالة الإمبراطور، ولكي ترى حقيقة نصاعتها، لنعد لمواجهة حقيقة ما قبل أكل التفاحة.. هل ستواجهنا هوة فراغ أكبر مما نطيق؟ هل رتق هوة لجاجتها كأس دم المخلص “كأس النبيذ”؟
*عن ميدل أيست أون لاين