اية مهمة مهما كان حجمها تستلزم وجود الوعي والملاكات. اما أن تكون المهمة بحجم منهاج حكومي يستهدف معالجة ارث لا مثيل له من حطام المؤسسات والقطاعات والقيم والتشريعات وغير ذلك من الملفات المزمنة والشائكة التي خلفتها التجارب السياسية والحكومية السابقة؛ فان الحاجة لشرطي “الوعي والملاكات” يشتد ويتعاظم. لذا نحن امام مسؤولية كبيرة تتطلب التعرف على ما نمتلكه منهما، قبل الشروع باطلاق الوعود وتدبيج الخطط والمشاريع. قد يسارع البعض لترديد ما يشاع عن امتلاكنا الوعي والملاكات الكفيلة بالتصدي لمثل تلك المسؤوليات، وهذا على الصعيد الفردي قد يكون صحيحاً، فهناك غير القليل ممن يتمتعون بالوعي العميق لتعقيدات المشهد الراهن، وكذلك هناك عدد غير قليل من الملاكات والكفاءات واصحاب التجارب والمهارات في شتى مجالات الحياة العلمية والادارية؛ لكن ما نفتقده هو التقاء مثل هذه الامكانيات على رؤى وبرنامج عمل موحد ومشترك ينتصر للعراق الديمقراطي، والفرص المتاحة لها كي تكون فاعلة. نعم لا يعدم العراق من مثل تلك الامكانات الايجابية، غير انها ما زالت ضمن نطاق الفاعلية الفردية، لذلك يتم هدرها واستنزافها بفعل هيمنة قوى التشرذم واجنداتها المسكونة بهوس اعاقة بعضها للبعض الآخر.
لقد فتحت فرصة الاطاحة بابشع نظام توليتاري عرفه تاريخ المنطقة الحديث، المجال للعراقيين كي يستردوا ما فقدوه من وعي بما يحيط بهم من مخاطر وتحديات، لا سيما بعد اطلاق الحريات وفتح المجال واسعاً امام مختلف النشاطات السياسية والثقافية والاعلامية. لكن لم يمر وقت طويل على تلك البدايات، حتى وجدنا المفاصل الحيوية لاسلاب ما تبقى من دولة ومجتمع تحت تصرف المفارز المتقدمة لقوارض المكونات، وهو رد فعل طبيعي لما لحق بالبلد واهله من تدهور وتردي وانحطاط طوال عقود من هيمنة حثالات البشر على مقاليد الامور فيه. لذلك وعوضا عن مهمة ترميم الوعي والنهوض بمستواه، جرى العكس ولن نخفي سراً ان كشفنا عن دور وسائل الاعلام الحاسم في تلك الردة الوطنية والحضارية. لذلك علينا الحذر الشديد في التعاطي مع المنتسبين لهذا الحقل وبنحو خاص من تصدر واجهاته وشفط القسم الاكبر من اضواءه وصخبه وضجيجه، لا الاستعانة بهم لرفع انقاض ما خلفته نشاطاتهم “الاعلامية” من تشرذم وخراب..!
قد يعترض البعض ممن يكتفي بما يبدو على سطح المشهد، من شخصيات وعناوين والقاب علمية وسياسية واجتماعية؛ على ما نراه وما نطرحه من آراء يجدها متشائمة تجاه ما يجري من احداث. لكن المتتبع لما طرحناه وحذرنا منه منذ لحظة زوال النظام المباد الى يومنا هذا؛ يعرف جيدا نوع البوصلة والعدة والادوات والتفاصيل التي نستند اليها في جهدنا المتواضع هذا. طبعاً لا يخلوا الامر ممن انبرى بنية حسنة للتصدي لمسؤولية بعض المواقع المهمة في حكومات ما بعد “التغيير” لكنها سرعان ما وجد نفسه في موقف لا يحسد عليه والامثلة على ذلك كثيرة. ان موضوع “الملاكات” لا يمكن ان يشق طريقه وسط هذا الركام؛ الا عن طريق امتلاكها لفريق عمل متكامل ويتمتع بالخبرة والمهارات اللازمة. فرق عمل وورش لاعادة البناء في جميع الحقول، تكون مستندة لارادة سياسية واجتماعية حاسمة، وهذا ما لم نشهد علاماته لا في “الشارع” ولا في المجتمع ولا عند الكتل والجماعات القابضة على مقاليد امور كل هذا التشرذم.
جمال جصاني