لقد أثارت الحادثة الأليمة لاغتيال الشخصية المرموقة الدكتور هشام الهاشمي، ملف الجرح المزمن في حياة العراقيين؛ الا وهو الموقف المتخاذل والملتبس من عصابات القتل والاجرام. ملف لن ينتهي بمشهد الدراجتين وهي تنتظر بكل اطمئنان وصول ضحيتها المرتقبة الى المكان المشؤوم، ومن ثم اطلاق الرصاص عليه وترك موقع الجريمة الذي لم يخلوا من العربات والمارة، وكأن ذلك المشهد هو من طبيعة الاشياء في هذا الوطن المنكوب بالذل والهوان والخذلان، حيث سرعان ما ستنظم هذه الجريمة البشعة الى رفوف الاضابير الضخمة من الاحداث التي نفذها الاشباح أو “مسلحون مجهولون” كما هي العبارة المحببة للبيانات الرسمية. كي لا يتحول حادث اغتيال الهاشمي الى ذريعة اضافية لدى الاطراف المتناهشة عند اطراف الغنيمة الازلية، ومناسبة لتصعيد وتيرة تصفية الحسابات المستعرة بينها، كما نضح عن ردود الافعال السريعة والاتهامات الجاهزة لبعضها البعض الآخر؛ علينا الالتفات جيدا الى ان هذه الجريمة هي حلقة من مسلسل متواصل مثلت “جمهورية الخوف” سنامه الاعلى، وبعد اسئصالها الشكلي تركت خلفها ارثا وتقاليد راسخة تفدرت على تضاريس هذا البلد الممتدة من الفاو لزاخو.
يفترض بالعراقيين عدم نسيان ما كان يجري زمن ذلك الذي انتشل مذعورا من جحره الاخير، ولا سيما المشاركة الاجبارية لـ “الرفاق” بحفلات الاعدام والقتل الجماعي، والتي مثلت باكورتها مجزرة قاعة الخلد صيف العام 1979، حيث شرعت الابواب للتورط الجمعي بالقتل والاجرام. مثل هذه الالتفاتة الى الماضي ستزعج الكثير ممن يجتر علف عبارة “صار البعث من الماضي” لكن حادثة الاغتيال الاخيرة ومكانها وزمانها (وقت حظر التجوال)؛ هي من تدعونا لسبر غور هذا الارث الذي لم ينزل على تضاريسنا المستباحة من كوكب آخر. من المخجل ان ندع كل هذه الاستعراضات والمزاودات في مجال الدفاع عن حقوق الانسان وحقه في العيش الآمن والكريم؛ تنطلق من جهات وعقائد ومصالح ومخلوقات ادمنت الاحتفاء بالجريمة والمجرمين تحت شتى الذرائع والمبررات، لان الموقف من الجريمة كل واحد لا يتفكك، وهذا ما لم يحصل لدينا بالرغم من مرور أكثر من 17 عاماً على زوال نظام المقابر الجماعية ومفارز كاتم الصوت العابرة للحدود الوطنية والاقليمية.
في زمن جائحة كورونا لا نحتاج الى نسخة جديدة من “قمصان عثمان” والتي يجيد البعض استعمالها عند مفترق الطرق؛ فملف الاغتيالات وتصفية الآخر المختلف عندنا قديمة، وكما اشرت فقد تحولت الى تقاليد، حيث لا يفلت مرتكبيها من العقاب وحسب، بل غالباً ما يتم الاحتفاء بهم وتقليدهم لارفع المناصب والانواط، وهذه حقائق لا ينكرها سوى جاحد أو قشمر. لذلك لن يجدي نفعاً التصدي لهذا الملف بعطابات اعفاء هذا المسؤول الامني أو ذاك، ولا سيول التهديدات لاشباح باقية وتتمدد الى تفاصيل حياة المجتمع والدولة، انه ملف يتعلق بما تم التفريط به لصالح جائحة العصابات وحثالة المجتمعات وبؤرتها الاساس “جهاز حنين”؛ انها الارادة الوطنية والزعامات القادرة على اتخاذ القرارات اللازمة لكبح جماح هذا الانحدار المتسارع صوب الحضيض. ان اغتيال هذه الشخصية المعتدلة ومحو هذا الوجه الاعلامي المعروف عن المشهد، هو من دون شك مؤشر خطير على ما يتم التخطيط له، من خلط متقن للاوراق والمواقع والاصطفافات وبالتالي دفع الاستقرار الهش للبلد الى ما تهدهده مخيلاتهم المريضة من كوابيس لبلد لم يعرف أهله العيش بأمن وسلام منذ زمن بعيد…
جمال جصاني