جمال جصاني
فجأة، وجد اهل العراق انفسهم خارج قضبان “جمهورية الخوف” ومسلسل كوابيسها البشعة، ولم يمر وقت طويل حتى وجدوا انفسهم امام حقيقة امكاناتهم المعطوبة والبائسة في التصدي لتحديات ما يعرف بـ “العدالة الانتقالية”. لاسباب وعلل تطرقنا الى غير القليل منها، لم يلتفت اصحاب الشأن ومن تنطع لتصدر مشهد ما بعد “التغيير” لابسط بديهيات ومتطلبات البناء الجديد؛ الا وهو البدء اولا وقبل كل شيء بمهمة، رفع الانقاض والنفايات التي خلفتها ابشع تجربة توليتارية فرضت هيمنتها المطلقة على تفاصيل حياة الدولة والمجتمع، كي يمكن لمراحل البناء الاخرى من شق طريقها الى التحقق، ليس هذا وحسب بل وجدنا انفسنا وبعد 17 عاماً على ذلك الحدث التاريخي، أمام ركام اضافي من انقاض ونفايات قوارض “المكونات”. من تسعفه الاقدار بامكانية التعاطي الواعي والمسؤول مع طلاسم المشهد الملتبس، سيجد نفسه امام كم هائل من الرثاثة والبلاهة في التعاطي مع اولوياته ومعطياته الفعلية، وهذا ما سيدفعه لطرح سؤال مقالنا؛ من هي الجهات والمصالح والعقائد والقوى التي تمد وتزود المشهد الراهن بكل هذه الرثاثة..؟
بكل تأكيد لم تهبط علينا هذه البلاوي من كوكب آخر، لذا ينبغي اقتفاء اثرها فيما جرى من ردة حضارية ووطنية وقيمية في العقود الاخيرة، وتحديداً في هذا المقطع التاريخي (1963-2003) المثقل بالاكاذيب والاضاليل أو ما يعرف بـ “تبيض الاخطاء” والجرائم والانتهاكات، والتي هي اشد بشاعة وفتكاً من تبيض الاموال. من دون الحاجة الى ذكاء خاص بمقدور القارئ (يستثنى من ذلك القافلين من جميع المعسكرات) التعرف على حجم قوة ونشاط الضخ لديمومة فريضة “تبيض الاخطاء” هذه ولا سيما بين المسكونين بحلم استرداد الفردوس المفقود..! ابشع تجليات الرثاثة يمكن تحديدها في المواقف الملتبسة والبعيدة عن المسؤولية، التي تساق اليها قطاعات واسعة من المجتمع تجاه جلادي ومجرمي أبشع حقبة عرفها تاريخ العراق الحديث، حيث لا تكف ولا تمل ماكنة اخطبوطية ضخمة؛ عن ضخها الممنهج لتبيض ما جرى من انتهاكات تخجل منها الضواري، مما يدفع الى المزيد من تسميم الاجواء واشعال نار الاحقاد والعدوانية والثارات، في وطن اثقلته مثل هذه الاوبئة، على مر تاريخه القديم منه والحديث.
آخر ما نحتاجه هو المزيد من عمليات خداع بعضنا للبعض الآخر؛ باجترار علف العناوين الوطنية والحضارية الضخمة؛ كالوحدة الوطنية والكرامة والحقوق والحريات، في الوقت الذي تستوطن جماجم ومشاعر غير القليل منا؛ روح الحنين والتعاطف أو الالتباس في الموقف من تلك المحطات المشينة في تاريخ الشعوب والامم. ان الاستثمار البشع فيما جرى من لصوصية وفرهدة وانتهاكات فيما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، من قبل قوارض “المكونات” لاجل تبرير وتبيض اهوال النظام المباد ومؤسساته القمعية؛ يدفعنا الى نهايات لا يدرك قعرها أفضل العلماء والمهتمين بشؤون “الرثاثة”. ان استمرار الطواف داخل الحلقات المفرغة لانفاق فوضى لم يلوح في نهاياتها ادنى ضوء، يعني اننا ننحدر الى مآلات لن يفيد معها الحسرة والندم، فلا شيء يستدعي الطغيان كما الفوضى، وهذا ما يسعى اليه سدنة البلاهة والرثاثة ممن يستندون الى ما يعاد تدويره من حطام المعطوب والمذعور وما يطفح عنهما من سلالات. ان محاولات خلط اوراق مشهد مثقل بكل اشكال وانواع الرثاثة؛ لن نحصد منه غير تجلي مبتكر لخيباتنا المستجدة..