حدث هذا في البلد الذي تضم ولاياته وتضاريسه ارقى واعظم الجامعات والمعاهد العلمية في عالم اليوم؛ حيث وقع الرئيس الاميركي (دونالد ترامب) مؤخراً قانوناً لاعتماد المهارات لا الشهادات في التوظيف. كيف سيقرأ فطاحلة بلد منكوب على كل الجبهات والحقول المادية والتعليمية والقيمية (العراق) مثل هذه القرارات..؟ في الاجابة على هذا السؤال، أجد نفسي الوذ بما ذهب اليه شاعرنا الكبير مظفر النواب “اني في شك من الفاو لزاخو” لان سوادهم الاعظم قد استعان بتعويذة الشهادات ليشق طريقه الى اسلاب الوليمة الازلية، هذا ان سمحنا لانفسنا بارتكاب اثم وضعها بمصاف ما استغنى عنه الرئيس ترامب وادارته من شهادات رصينة ومعتبرة. من الصعب العثور على بلد يهيم سكانه بـ “الشهادات” كما العراق، وهذا ما حرصت على ترسيخه أعلى سلطة تشريعية ورقابية في البلد؛ عندما سنت تشريعاً يحجب الحق الدستوري (المساواة في الحقوق والواجبات) عمن لم تمنحه الاقدار البكلوريوس فما فوق، من الترشح لعضوية مجلسهم العتيد. تلك القفزة التشريعية التي جعلت المغفور له جان جاك روسو في حيرة من أمره..!
من المعروف عن عملية صنع القرار في الولايات المتحدة الأميركية، انها بعيدة كل البعد عما رائج لدينا من ثوابت العشوائية والارتجالية وردود الافعال الفاشوشية لاتباع “العملة السيئة…”، فهي بلد المؤسسات ومراكز البحوث المتخصصة التي تجذب الى اداراتها الكفاءات والمهارات والخبرات المشهود لها بروح الابداع والابتكار والايثار؛ لذلك وجد الرئيس ترامب على طاولة مكتبه مشروع قرار لوضع المهارة والموهبة اساساً للتوظيف في دوائر ومؤسسات الدولة، ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان مثل هذه المعايير نافذة وفاعلة منذ زمن بعيد في قطاعات العمل الخاص، حيث غير القليل من شخصياته الفاعلة والمرموقة هم من اصحاب المهارات والرؤى، وما صاحب مايكروسوفت بيل غيتس الا مثال على ذلك. اما ما يجري لدينا من تورم وتغول في طلب “الشهادات” لا المهارات، فهذا ما يجب ان نقتفي اثره فيما ترسخ لدينا من نمط حياة واسلوب طفيلي وشره لانتاج الخيرات المادية وتراكمها وتوزيعها. جائحة الرزق الريعي وما انتجته من كيان خرافي يمكن ان نطلق عليه بـ “الدولة الخيرية” المعيلة لاكثر من خمسة ملايين موظف مدني وعسكري، يقفون اليوم على كف عفريت بعد أن جف ضرع معيلهم الاساس (النفط والغاز) في هذه الجائحة علينا اقتفاء اثر كل هذا العجز والهوان وتقاليد ابعاد وتهميش الخبرة والموهبة والمهارات لصالح نوع من الشهادات عاجزة عن “قتل ذبابة”.
ان استفحال ظاهرة الاستحواذ على أكبر عدد من “الشهادات” وانواط وكتب التقدير المجانية، ولا سيما بعد تبخر مؤسسات النظام المباد المدنية والعسكرية والبين بين؛ تقف وراءها السياسات المتهورة والبعيدة عن الحكمة والتدبر، التي اتخذتها طبقة سياسية فاشلة وفاسدة، اعتمدت معايير الخنوع والتزلف والولاء، بديلاً عما عرفته البلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري من قيم ومعايير؛ تضع الانسان المناسب في المكان المناسب على اساس المهارة والنزاهة والموهبة لا خرط قتاد شهادات وجامعات، وجدت لتلبية حاجات لصوص المواقع والمناصب والدرجات الوظيفية المتورمة. لقد عرت جائحة (كوفيد 19) كل ما نحتفي به من ترهات وعطابات بائسة، حولت مشروع الدولة من جهاز حيوي وديناميكي لخدمة الشأن العام؛ الى ثقب اسود متخصص بشفط كل ما يختزنه ضرع الريع الذي اذلتنا به الصدفة الجيولوجية… ولله في خلقه شؤون.
جمال جصاني