محمد زكي ابراهيم
شاع في بدء هذا القرن مفهوم جديد، اسمه النسبية الثقافة، أريد به التأكيد على أهمية ثقافة الأقليات بالدرجة الأولى. أي وضع جميع الملل على قدم المساواة، بغض النظر عن الحجم، والنفوذ، وعدد السكان!
لقد طرحت هذه الفكرة بعد أن أوشكت بعض الجماعات قليلة العدد، على الذوبان في محيط الأغلبية، وبدأت تفقد خصائصها الواحدة بعد الأخرى. لكن هناك من يرى أن الهدف منها هو تفكيك المجتمعات الكبيرة إلى كيانات مجهرية يسهل احتواؤها، كما جرى في بلدان عديدة في البلقان، وشرق أوربا، وإفريقيا.
ومعنى ذلك أن الثقافة هي العامل الأهم في بقاء الدول وتطورها. مثلما هي السبب المباشر في تفككها وانقسامها. فالدولة التي لا تملك ثقافة رصينة لا تستطيع الثبات طويلاً بوجه السنن الكونية.
واللغة هي الوجه الآخر الذي يعرفه الناس للثقافة. رغم أن الآراء لم تتفق بعد على تعريف محدد لها. إلا أن هناك لغات مشتركة، تداولتها الأجناس البشرية الأولى على نطاق واسع، مثل الإشارات، والإيماءات، وعضلات الوجه، ونظرات العيون. فالحركة لغة مكتملة البناء، واضحة المعالم، ترمز إلى وحدة البشرية، يوم لم تكن الملكيات الخاصة، أو الأوطان، أو الحكومات ذات السيادة قد عرفت بعد.
وأجل هذه اللغات على الإطلاق العيون، التي يتحدث بها الناس كل يوم. ولا يملكون ما يفوقها صراحة وقوة. أو يماثلها جمالاً ورقة. وقد تكون هي اللغة الأكثر انتشاراً لدى الإنسان في مراحل نشأته الأولى. قبل أن يتمكن من فك عقدة لسانه.
وللعيون وظائف أخرى يستعين بها أهل العلم. بعد أن عرف أنها تعكس الطبيعة الداخلية للإنسان، وتكشف ما في سريرته من ميول. ولأن اللغة المحكية لم تخترع للتعبير عن مشاعر الإنسان، بل لإخفائها عن الغير. فإن العيون تستطيع أن تقدم له هذه الخدمة. ومما لا ريب فيه أن مواجهة الناس تجعلهم قادرين على فهم ما يدور في أذهان بعضهم البعض، وتمكنهم من اكتشاف ما يريدون إيصاله من أفكار. فليس هناك أصدق من الخبر في عيني القائل. هذا الأمر هو الذي جعل المقابلات الشخصية إحدى الأسس التي تقوم عليها عملية اختيار طالبي الوظائف، أو الراغبين في أداء دور ما، أو الاضطلاع بمهمة خاصة، في الشركات أو المكاتب الحكومية.
أغلب الظن أن العين قادرة على اكتشاف منزلة صاحبها لدى الآخرين. فلغتها التي تتحدث بها بصمت هي الأكثر وضوحاً وتأثيراً من أي لغة أخرى ناطقة في هذا العالم ! ولو بقيت العيون وسيلة التخاطب المتداولة بين الشعوب، لأصبح العالم كتلة متراصة، لا تفترق عن بعضها، ولا تعادي أحداها الأخرى. ولما اندلعت حروب أو انقسمت بلدان. وربما كانت قادرة على جمعهم تحت مظلة واحدة، وثقافة واحدة، ومصير واحد. فهل كانت اللغات الناطقة وبالاً حقيقياً على الإنسان، أو أنها على العكس من ذلك ذروه ما وصل إليه من تقدم؟