ما المصير الذي انحدرت اليه النسخة العراقية من “العدالة الانتقالية” الا نتيجة طبيعية لم تشذ عن حال مختلف الملفات العويصة التي تلقفتها القوى والكتل والمصالح المتناهشة على اسلاب الغنيمة الازلية، فلا الجلاد والمتجحفلين معه من مرتكبي ابشع الانتهاكات زمن النظام المباد، قد وضع تحت تصرف سلطة قضاء مستقل وشجاع (لم نتعرف عليه حتى هذه اللحظة) أو ما يعرف بـ “لجان الحقيقة” كي يعيد ترميم ما تبقى له من آدمية ووجدان. ولا الضحية تمكن من التحرر من أوزار تلك الحقبة من العبودية والاذلال و “المظلومية” وما يرافق ذلك من تصرفات وردود افعال انتقامية تتنافر وما تتطلبه المرحلة الجديدة. لذلك حل ما حل بذلك الكم الهائل من مؤسسات ولجان المساءلة والاجتثاث والمصالحة وغير ذلك من هيئات العدالة الانتقالية، والتي فرطت بروح ومعنى الواجب الذي وجدت من أجله، بعد ان تحولت غالبيتها الى باب من ابواب الارتزاق والفساد، بفعل هيمنة غيلان الكتل المتنفذة عليها.
ان مفهوم العدالة الانتقالية ليس بدعة كما يسعى البعض للترويج له، فهو منظومة من القوانين والتشريعات والخطوات والتدابير التي تتخذ من اجل معالجة ما خلفته الحقب التوتاليتارية من انتهاكات جسيمة لحقوق الانسان، ومن دونها لا يمكن التأسيس لمناخات الثقة وتحقيق المصالحة الوطنية، وان هذا المفهوم يضع الضحايا وكرامتهم على رأس أولوياته. انه في نهاية المطاف ليس ابتكار محلي جاءت به تجربة عراق ما بعد زوال النظام المباد، فهو معتمد من قبل العشرات من البلدان التي عرفت مثل هذه الانتهاكات لحقوق الانسان وكرامته، لكن النسخة العراقية منه مسخت بهذا الشكل الذي عرفناه، ليس لعيب في هذا المفهوم القيمي والقانوني المجرب؛ بل لنوع القوى والاصطفافات التي تعهدت للقيام بمثل هذه المهمة الانتقالية. في البلدان التي وصلت لسن التكليف الحضاري، تم التعاطي ومتطلبات مرحلة العدالة الانتقالية بوعي وشجاعة ومسؤولية عالية، وقد تصدر تلك النشاطات العمل في سبيل ترميم الخراب القيمي والاخلاقي وما خلفته حقب الذل والعبودية من حطام البشر والقيم، لذلك وضعوا نصب اعينهم مهمة تخليد ذكرى الضحايا وتشريع اشد القوانين تجاه اية محاولة تتعاطف أو تتواطئ مع جرائم الماضي.
بعد أكثر من سبعة عشر عاماً على ما جرى من “رعبلة للعدالة الانتقالية” ما الذي يمكن فهمه من المشهد الراهن، والذي تتصدره حملة مضادة لتشويه سمعة الضحايا وتلطيف ما ارتكبه جلاديهم من انتهاكات واهوال؛ غير اننا قد اهدينا المجتمع الدولي والمهتمين بحقوق وكرامة عيال الله، احد أكثر التجارب بؤساً وقبحاً وتنافراً وروح هذا المفهوم والذي ادركه التوحيدي قبل أكثر من الف عام “الانسان أشكل عليه الانسان”. ان تختزل المقاصد النهائية للعدالة الانتقالية بالتعويضات المادية للضحايا التي حددتها التشريعات، ليتم الاستفراد بهم عبر حملات ممنهجة ومتقنة لتسقيطهم اخلاقيا ومعنوياً، كما يحصل في نسختنا المحلية منها؛ انما تكشف عن فضائح من العيار الثقيل لمن يهتم فعلاً بحال واحوال هذه المضارب المستباحة منذ زمن بعيد. ان تفضي كل هذه الفزعات واللجان والهيئات والمهرجانات الصاخبة والدقلات القضائية المتناغمة وايقاعات المصالحة الوطنية وغير ذلك من الاستعراضات، الى ما انحدرنا اليه من تشرذم وفزعات مسعورة لنهش بعضنا للبعض الآخر؛ فان ذلك كله لا علاقة له بما اهدتنا اياه الاقدار من مفاهيم حضارية راقية، بل بما شخصه مظفر النواب “ان الواحد منا يحمل في الداخل ضده”..
جمال جصاني