يوسف عبود جويعد
في تجربة جديدة ومغايرة لما اعتدنا من نصوص سرديه روائية، يقدم لنا الروائي علي الحديثي روايته الجديدة (وجهٌ في كرة)، وهي تقدم لنا بطلة هذا النصّ (سما) لتقوم بإدارة دفّة الأحداث كساردة وحيدة، لتختلف مهمته، وتكون ذات نمط آخر، إذ يتحتّم عليه هنا أن يخلع الثوب الذكوري، ويلبس ثوب المرأة وشخصيتها وصفاتها الأنثوية، وحياتها ومعاناتها وآلامها، وعلاقتها العاطفية، وتداعياتها وهواجسها وأفكارها، بحسّ ناعم شفاف رقيق، فيتغيّر فضاء السرد ومعالمه، وننتقل إلى عالم آخر، هو رحلة في ملكوت بطلة هذا النصّ (سما) وحكايتها وأفكارها الواعية، التي تنطلق من ذات متعلّمة، تريد لحياتها شأناً بعيداً عن تلك القيود التي أكل منها الدهر وشرب، حيث نكتشف ومن خلال المسيرة السردية أن سما منذ أن وعت على الدنيا ووجدت بأن اسمها باسم ابن عمها فهد، ولأنها طفلة كانت تنظر لتلك الأفكار بأنها طبيعية، ولكنها عندما كبرت ودخلت الكلية وجدت بأنها تعيش كارثة كبيرة، هذا بعد أن تعلقت بزميلها في الدراسة (باسل)، وهو شخصية متحررة ومثقف ويعرف الكثير عن الحياة القويمة ووجدت فيه ضالتها المفقودة:
(كالنمل دبّ الخوف في مسامات روحي، وأنا أطأ بخطوات الدهشة أرض الكلية أول مرة، سمعت.. قرأت.. رأيت في الأفلام والمسلسلات هذه الأجواء، أمّا أن أكون أنا نسمة تحلّق فيها، نسمة يسعى كثير من الشباب إلى استنشاقها، فهو أمر يصيب المرأة بالغرور، أمّا أنا فكان يصبني بالخوف، أرتعد منه كلما فكرت به). ص21
وهكذا تتشكّل أولى خطوات الوعي، الذي كان غائباً عنها، أو قد تكون غافلة عنه فتكتشف أن قيوداً كثيرة فُرِضت على حياتها ومستقبلها ومصيرها، وكما هو معتاد من الروائي في جميع نصوصه السردية، أن يغتنم مساحة واسعة من فضاء هذا النصّ، لينقلنا وبرؤية فلسفية واعية، وروح تحاول الانسلاخ من آثار وبقايا وأفكار وطقوس وتقاليد وعادات بالية خالية من أيّ معرفة حياتية، وهي مازالت متسلطة، ومن جوانب متعددة، المجتمع، الدين، التقاليد، وسلوكيات باتت غير مرغوبة في العصر، فإنّ الروائي يضعها ضمن مسار هذا النص، كحالة مرفوضة ويجب أن تزول، لأن حياة الابن والابنة ستكون حتماً مختلفة ومغايرة، وعليهم أن يعيشوا حياتهم كما يرونها، وليس كما يراها الأب أو العم أو ابن العم، وهذا الصراع وبقيادة حاذقة من بطلة هذا النصّ (سما) غدا محوراً مهمّاً من محاور مبنى هذا النصّ، ليكون التعاطف أكثر اهتماماً لدى المتلقّي، ويتابع النصّ باهتمام واضح، كون سما وجدت نفسها في منحدر خطير وخالٍ من أيّ إنسانية، وعليها أن تجد منفذاً ومنقذاً في الوقت ذاته:
( – حينها ستعرفين أن عالمك هشّ.. عليكِ أن تهجريه.. أو تعيدي بناءه من جديد.. البقاء واقفة في مكانك سيصيب روحك بالعفن كالماء الآسن، تذكرت ما قالته لي إحدى صديقاتي بعد تخرجنا من الإعدادية “الذين يبقون على مسار واحد طول حياتهم ليسوا سوى أحجار متحركة”). ص 23
وهكذا يحتدم هذا الصراع، فتجد سما منحازة ومنسحبة إلى باسل روحاً وجسداً، فقد وجدت فيه ضالتها، ووجدت فيه المنقذ الذي من شأنه أن يخلّصها من هذا التداخل وهذا التشابك في حياتها كامرأة تتطلع لمستقبل أفضل، فتدخل مع باسل تتابعه وهو يلعب كرة المنضدة، وتتحيّن الفرص فتأخذ تلك الكرة الصغيرة، والتي سيكون لها دور وشأن مهم في مسار مبنى هذا النص، لأنها ترى في هذه الكرة ملامحها التي لم تكتمل، وتراها أيضاً حالة من حالات النشوى والزهو لأنها تضم في رمزها مسيرة علاقتها مع باسل، ومن هنا نشأت بنية العنونة لتكوّن الرؤية الفلسفية والثقافية لهذا النصّ، لأنها ذات دلالات تمسّ العمل الفني محتوىً ومضموناً وثيمة وشكلاً وتكويناً، وهي في خضمّ تداعياتها وأفكارها ومخاوفها تدخل سما إلى بيت أهلها لتجد أمامها معالم فرح واستعداد، للزوج من ابن عمها فهد، فتصاب بخيبة أمل كبيرة، إلّا أن فهد يختفي مدّة، بعدها يتأكد لهم أنه معتقل من قبل الأمريكان، وفي ذات الوقت يختفي باسل عن حياتها وتضيع أخباره، فتعيش فراغاً غريباً وقلقاً كبيراً، في كلّ الحالات ففهد ابن عمها ويجب أن تخاف عليه، وأنه سجّل موقفاً بطولياً، يفخر به أبناء عمومته وأهله، وكذلك قلقها الدائم على باسل الذي غيّر فيها أشياء كثيرة، وعرفت من خلاله معالم بغداد، وأماكنها الجميلة، ليظهر فهد وقد أُطلق سراحه، وفي هذه المتغيّرات والأحداث يعدّ لنا الروائي المفاجأة الثقيلة والتي برع في تكوينها داخل متن النصّ، فلم يكن فهد ذلك الشخص الذي لا يعرف عن الحياة شيئاً، فقد تغيّر إلى شخص آخر مختلف يملك الكثير من المعلومات والوعي والثقافة، ولأول مرّة يخرج معها في نزهة، والدخول إلى أحد مطاعم بغداد وباختيارها، وهنا تسأله سما عن هذا التغيّر الذي حصل في حياته وسلوكه، فيقول لها كان لي (صنو) كما كان يطلقون عليهما، وقد تعلمت منه الكثير، فتوافق على الزواج منه، لأنها وجدت أن تلك الصفات مشابهة لصفات (باسل) وفي العرس يظهر باسل، لتعرف أنه الصنو الذي تعلم منه.