محمد جبير
تعود ذاكرة الحرب من جديد في الكثير من النصوص السردية العراقية،لأنّ ما حدث لا يمكن أن ينسى أو يغادر الذاكرة، فالتفاصيل تجذّرت ولم تعد مجرد صور مخزونة في الذاكرة، وإنّما هي تجارب حياة وموت، والأسماء التي ترد في تلك السرديات هي ليست مجرد أسماء، وإنّما هي تاريخ حياة إنسان تشاركنا معه مرارة تلك الأيام ولحظات الخوف والقلق والترقّب والدفاع عن النفس في مواجهة الموت.
وتشكّل قراءة تلك النصوص السردية بالنسبة لي على الأقلّ فتقاً لجروح لم تندمل بعد لتلك السنوات الثماني التي عشناها بين فكَّي الموت في جبهات القتال من الشمال إلى الجنوب،واسترجاعاً لتلك الأيام بمرارتها كلّها بنهاراتها ولياليها، بين عتمتها وضيائها بمشاعل التنوير والقصف الليلي العشوائي وبالهجمات المتوقّعة وغير المتوقّعة.
ويذهب بنا الكاتب “سعد الأزرقي” في روايته”ستة أيام بين الجثث”، والتي وضع لها عتبة ثانية “حكاية شقّ الموت”،إلى تلك الأيام في السنوات الأخيرة من سنوات الحرب التي شهدت المواجهات الحاسمة في احتلال أرض واستعادة تلك الأرض، وهي الساعات والأيّام التي تتجسّد فيها ملحمة الحياة في ذاكرة الجندي الساكن في المواضع وشقوق الأرض.
ارتكزت تجربة النصّ على الأيام الستة التي يقضيها الجندي السارد الناجي من القصف في ذلك الشقّ الواقع في منتصف الطريق بين جبهتين، يلتحف جثث الموتى ليقي نفسه من المطر والقصف المعادي والصديق أملاً بإنقاذه من قبل جنود وحدته، أو تمكّنه من الوصول إلى الخطوط الأمامية بأمان، تمرّ به الساعات والأيام ثقيلة ومرعبة بين جوع وعطش وقذائف متواصلة ومطر، اجتمعت عليه كلّ عناصر الطبيعة لتزيد من عذابه وقلقه.
هذا النصّ هو التجربة الروائية الأولى للكاتب بعد تجارب في كتابة القصة القصيرة، وارتكزت كما ترتكز الكثير من التجارب في السياق ذاته على تجارب حياتية خاصة، ويغيب منها الجانب الابتكاري والخيالي، مما يضع أغلب تلك المحاولات السردية في خانة الأدب السيري أو سرد اليوميات والمذكرات السردية، ونادرا ما تخرج التجارب الأولى للكتاب من هذه التوصيفات، حتى إنّ كبار الكُتّاب ينظرون إلى الكاتب في قدرته على التواصل الروائي من تجربته الروائية الثانية وليس في تجربته الأولى.
وقد ينظر بعضهم إلى التجربة الأولى نظرة عدم اهتمام ولا أبالية بوصفها محاولة أو مغامرة للقفز إلى الأمام،إلّا أنّ هذه التجارب الأولى مهما حملت من عناصر الضعف فإنّ فيها مزايا إيجابية،إذ لابدّ من النظر لها وبها على محاسن العمل الإبداعي وتغليبها على ما يمكن أن يكون عثرات في السياق العام للنصّ،إذ لا يمكن أن يتشكّل ويعلن عن نفسه من العمل الأول إلا ما ندر، أمّا تلك الأعمال الأولى التي تنتشر في عالم الإبداع فإنّها تكون مسبوقة بتجارب كتابية سرّية صقلت موهبة الكاتب في الخفاء لتنتج نصّاً إبداعيا متميّزا.
ففي تجربة “الازرقي” التي كانت أشبه بالنصّ السيرذاتي إلّا أنه عشّق فيه الكثير من التفاصيل التي خرجت بالنصّ من أيامه الستة في شقّ الموت لتمتدّ إلى ضفاف حياته في المدينة وتفاصيل العائلة والحب، وهذه التفاصيل وإن أضافت نكهة حياتية للمقاتل في سرّ إصراره على الحياة، إلّا أنها أخرجت النصّ عن عتبة”حكاية شقّ الموت”، ومن كلّ ما تقدم فإنّ لهذا النص حسناته، وأول تلك الحسنات مغامرة كتابته.