منذ مئة عام (1921-2020) ومركب الدولة العراقية الحديثة عاجز عن الوصول الى غاياته المنشودة. لا احد ينكر ان مشوار الفشل والعجز هذا، قد تخللته محطات ونشاطات رائدة دفعت باتجاه التأسيس لهذا المشروع الوطني والحضاري، غير ان احتياطات الامكانية السلبية كانت أعظم واكثر مراسا ودهاء من تلك التطلعات العادلة والمشروعة، لذلك تم اجهاض تلك المحاولات، والتي ما زالت تومض من تحت رماد وانقاض ذلك المشروع. ملف الدولة العراقية الحديثة واسع وشائك وما زال ينتظر نشاطات وجهود عملية ونظرية جادة ومسؤولة وشجاعة، لم تبدأ بعد، وما الحال الذي انحدرنا اليه بعد مرور أكثر من 17 عاما على استئصال المشرط الخارجي لسرطان “جمهورية الخوف” من دون تحقق اية خطوة فعلية باتجاه ذلك المشروع؛ الا دليل واضح على ذلك. كما اشرت فان هذا الملف (الدولة الحديثة) يحمل الكثير من الوجوه والتجليات المادية والقيمية، لكنني اليوم احاول التعرف اليه من خلال دور وفعل “الاكاذيب” في اجهاضه وافراغه من محتواه الوطني والقيمي.
هناك قاعدة اوجزتها لنا حنا أرندت بشكل مكثف، ولن نبتعد عن الموضوعية عندما نقول؛ لا يمكن تجاوزها عند الشروع الجاد في التأسيس للدولة الحديثة والتي لا تقوم لها قائمة، من دون اساس مكين للحقوق والحريات وهي “ان التوافق على وقائع التاريخ المشترك يعد شرطاً جوهرياً للحرية”. هذا “التوافق” الذي سحقته “الاكاذيب” وسدنتها، من الذين فرطوا بحاضر ومستقبل هذا الوطن المنكوب ومصالح شعوبه الحيوية، من اجل مصالح فئوية ضيقة وسرديات وعقائد انتهت صلاحيتها منذ زمن بعيد. نعم، لقد شهد تاريخ العراق الحديث ولادة تيارات واحزاب وتنظيمات واتحادات متعددة في مشاربها ووظائفها وغاياتها، وقد شملت طيفا واسعا من الشرائح الاجتماعية، ولا احد ينكر المحطات التي شهدت اعمال عنف وفوضى، وفي بعض المنعطفات عمليات اجرام وقتل وانتهاكات يندى لها جبين الضواري لا البشر وحدهم، وغير ذلك الكثير من الاحداث والوقائع، التي هي اليوم اكثر من اي وقت مضى؛ بحاجة الى فهمها ووعيها بشكل بعيد عن المواقف المسبقة والمتحاملة والتي الحقت ابلغ الضرر بما انتبهت اليه حنا ارندت “التوافق على وقائع التاريخ..”.
ليس هناك ادنى شك من انعدام امكانية الاعتماد في النهوض بهذه المهمة، عبر ما تبقى من سكراب “الاحزاب” السياسية والكتل المتنفذة في المشهد الراهن، ولا من فلول وواجهات النظام المباد والمسكونة بحلم “العودة” للفردوس المفقود. كما ان الموقف العبثي من ذلك الارث، أو تسخيفه بوصفه مجرد أعمال شغب وفوضى ومغامرات وتطلعات فردية، ما هو الا هروب بائس وجبان من مواجهة مثل تلك الاحداث والوقائع الفعلية لا المتخيلة، والتي ما زالت تنتظر ملاكات علمية وبحثية رصينة، كي تتعرف الاجيال الحالية والمقبلة على حقيقة ما جرى مع اسلافها بجرعة أقل من “الاكاذيب”. عندما نلتفت قليلا الى ما يشغل المنتسبين لنادي “الانتلجينسيا” والجيش العرمرم من حاملي الالقاب الاكاديمية في مجال العلوم الانسانية وبنحو خاص العلوم السياسية والاجتماعية والتاريخية؛ نكتشف حجم لا الاغتراب عن هذه المهمة الوطنية والعلمية والقيمية وحسب، بل نجد ان الغالبية منهم مثقلون بحمولات ذلك الارث من “الاكاذيب” ومناهج التبعية والتقليد والتلقين العقيمة. مجتمعات يكون فيها “الكذب هو القاعدة” لا امل لها بامتلاك دولة الحريات والحقوق ومؤسساتها وتشريعاتها الحديثة المتناغمة وحاجات العصر..
جمال جصاني