محمد جبير
استفزت بغداد الذاكرة السردية العراقية والعربية، مثلما كانت مركزا في السرديات الحكائية التراثية، وهو ما يؤكّد قدرة هذه المدينة وتحفيزها للخيال الكتابي، وإذا كانت السردية التراثية قد حفلت بالحكايات التي رسّخت الصورة المتخيلة، فإنّ الحاضر قد لا يختلف كثيرا عن الماضي، فقد ظهرت في عصر ازدهار بغداد عاصمة الخلافة العباسية حكايات ألف ليلة وليلة وحكايات الشُطّار والعيارين والبخلاء والكثير من الاخبار التي وردت في كتب الأدب المختلفة.
واذ اختفت تلك الصورة البهية لبغداد قرون متواصلة إلّا أن بريقها السردي بقي عالقا في الذاكرة العربية ومصدرا توليديا للحكاية الجديدة، وهو الأمر الذي يجسّد نبض المدينة، وسرّ حيويتها، وصارت الكتابة عن بغداد تجسيداً للموقف الإنساني والوطني للكاتب، فقد استفزّ الاحتلال الأمريكي للعراق في التاسع من نيسان 2003 ذاكرة المبدع العراقي والعربي للكتابة عن بغداد من زوايا مختلفة ورؤى متنوعة، جسدت حيوية الجدل الحكائي وتداخله في البنيات النصية لتلك الحكايات.
فقد كتبت روايات عدّة كشفت عن متغيّرات الواقع الاجتماعي في ظلّ الاحتلال الأمريكي، مثل «مشرحة بغداد لبرهان الشاوي، عجائب بغداد لوارد بدر السالم، بغداد مالبورو لنجم والي، قيامة بغداد لعالية طالب،أموات بغداد لجمال حسين علي، فرانكشتاين في بغداد لأحمد السعداوي،يحدث في بغداد لرسول محمد رسول، مطر على بغداد لهالة البدري ، سيد بغداد لمحمد طعان».
هذه الروايات كُتبت من قبل كُتّاب عراقيين وعرضت فيما تعرّضت له الى متغيرات الواقع مابعد الاحتلال الامريكي للعراق في التاسع من نيسان 2003، وقد تناول كلّ كاتب من هؤلاء الكُتّاب المتغير السياسي والاجتماعي من وجهة نظره الجمالية الخاصّة وقدراته الفنية، حيث تفاوت من ناحية المستوى الفني بين النص العادي والنص الابتكاري المغاير الذي يحمل في طياته رسالة مغايرة لخطاب المحتلّ وما يبتغيه من وراء فعل التغيير، والكتابة بهذا الاتّجاه والتي أسمّيها الكتابة المناهضة، هي جزء بسيط من وظيفة الكاتب المثقّف، ولنا في تجارب الشعوب الأخرى الكثير من الأمثلة المقاربة للسياق الابداعي العراقي، مثل التجربة الفرنسية ومقاومة الاحتلال النازي أو التجربة الفتنامية ومقاومة الاحتلال الأمريكي، وكلّ ما تقدّم يندرج ضمن السياق العام لدور المثقف، لكن أن ينهض كاتب أو كاتبة من الكُتّاب العرب في الكتابة عن بغداد، فإنّ ذلك يستحق منا وقفة متأمّلة لذلك المنجز، لاسيما أنه ذهب الى لحظة ماضوية تفترق عن زمن كتابة النصّ، هذه التجربة هي «بغداد وقد انتصف الليل فيها» للكاتبة التونسية «حياة الرايس».
التجنيس أولا:
جنست الكاتبة نصّها السردي هذا في الغلاف الأول على أنه رواية،فيما ثبت في الصفحات الداخلية بعتبة شارحة وإيضاحية للعتبة الرئيسة «مذكراتي الجامعية في بغداد» ص3، بمعنى أن ما سيأتي هو مذكرات مرتبطة بتجربة في مكان محدّد وظرفية محدّدة، وهو ما يختلف مع تجنيس الكتاب في الغلاف الأول، ويبدو لي أن التجنيس في الغلاف جاء من قبل الناشر «دار ميارة للنشر في تونس- 2018 «، لكن ما تذكره الكاتبة في الصفحة الخامسة يقرّب بين التجنيسين «المذكرات – الرواية»، ويقربنا من الرواية السيرية، حيث تقول «رواية سيرة شخصية وسيرة – مكان- يتراوح بين تونس وبغداد، وسيرة أشخاص عاشرتهم وعاصرتهم».
بعيدا عن تحديد جنس الكتاب أو استقراره على تجنيس محدّد، فإنّ هذا النص يمتلك مقوماته السردية لما فيه من متعة وتشويق وأغراء للمتلقي للتواصل مع التفاصيل التي تبثّها الكاتبة بين سطور الكتاب وفي تنويع مصادر حكاياتها السردية في الذهاب إلى الجذور أو في رسم حكاية اللحظة الآنية أو في الحكايات الوهمية التي تتشكل في رأس الطالبة الجامعية في أيامها الأولى في لحظات قلقها أو عزلتها، هذا النصّ قالت عنه أستاذة الادب العربي بالجامعة التونسية جليلة الطريطر «هل انتهت حكاية شهرزاد بانتهاء ألف ليلة وليلة؟ هل سكتت شهرزاد نهائيا عن الكلام المباح؟» وتواصل في مقدمتها التي تصدّرت الكتاب «فبغداد التي تحتفي بها المؤلفة هي فضاء للحرية والحلم، فضاء لاكتشاف المجهول فرارا من المعلوم، وهي أولا وأخيراً فضاء اكتساب المغامرة المعرفية في أسمى معانيها التي ترتبط بالاغتناء المعرفي ونحت الكيان الثقافي، إنّها صوت آخر لشهرزاد التي نجحت في تخطّي رهان درء الموت الى تحقيق رهان بناء الذات».»ص-10».
قد لا تستوقف المتلقي جزئية تجنيس النص، وإنما يذهب إلى النصّ ذاته بعد أن يقرأ إشارة الكاتبة في الصفحة الخامسة، ليرى أو يكتشف التفاصيل للأمكنة التي شهدت مسارات الحكاية، والتي مضى عليها أكثر من أربعين سنة، ولا يمكن استرجاع حوادث وحكايات وتفاصيل السنوات الجامعية الأربعة في قسم الفلسفة في جامعة بغداد، إلّا أن ذاكرة الريّس مشبعة برائحة ولون التجربة التي أقدمت عليها في البداية بوصفها مغامرة معرفية لتتحول إلى علاقة عشق مع المدينة وتفاصيل الحياة فيها، لذلك تشبعت ذاكرة السارد المؤلف أو المؤلف السارد بالتفاصيل اليومية التي تغني الصورة المشهديّة في النصّ وتطوّر وتضيف مسارات متنوعة للحكاية السردية لإكمال الصورة.
الاسترجاع والايقاع:
يشكل الاسترجاع بنية تدفقية للبوح السردي، قد يكون عنصر شدّ المتلقي لمتابعة تفاصيل الحكاية في حال انسيابيته، أو يكون عنصراً معيقاً للتواصل في حال عدم الحفاظ على الإيقاع السردي في النص أو تذبذب الإيقاع السردي بين العلو والانخفاض حيث يمكن ملاحظة نشوزية ذلك الإيقاع وتقاطعه مع الإيقاع السردي اليومي للوقائع، فقد كانت الكاتبة على دراية واضحة بضرورة الحفاظ على الإيقاع السردي والحفاظ على تماسك بنية الاسترجاع السردي عبر الصيغة المقطعية للحكاية او البنية التراتبية للحكاية بما يؤثّث ويبئر الحكاية المركزية من مجموع الحكايات المحيطة.
«ما أصعب أن تعيش في بلد وتحلم ببلد آخر… وهذه ليست المرة الأولى التي يغرّبني فيها قدري عن حلمي».» ص54»، يتّضح من تلك الاسترجاعات والتي أعادت الحياة لتفاصيل مضى عليها عقود من الزمن «1977-1981»، وأرادت لها أن تحيا في الكلمة ومن خلالها وهو ما أرادت أن تؤكّده في أن السرد هو عشبة الحياة، وتتساءل في معارضتها لمقولة الكاتب محمود المسعدي « إنّ الرجل يكتب، تعويضا عن حرمانه، من تجربة الولادة عند المرأة،ولكن لماذا تكتب المرأة؟ إذا كانت قد حبتها الطبيعة بهذه النعمة؟ وكيف استبدلت أنا فعل الولادة بفعل الكتابة؟ كيف استبدلت الرحم بالكلمة».» ص60»، لكن يبقى السؤال،ما شكل هذا النص لو كتب في حينه؟ هل يحمل هذه اللغة والرؤى والتصورات التي حفل بها النصّ السردي؟
قد تكون الإجابة عن تلك الأسئلة الافتراضية إجابة افتراضية أيضاً،إلّا أننا الآن أمام نصّ مكتوب بوعي كتابي انضجته تجربة شعرية ومسرحية وثقافية ومعرفية، تمكّنت الكاتبة من استعادة تلك التفاصيل لنعيش الوقائع بحرارة التفاصيل وبروحها ورائحتها آنذاك، مجسّدة حبّ الكتابة لكلّ لحظة عاشتها في بغداد وحملت ذلك الحبّ إلى تونس لتحتفظ به كلّ هذه السنوات لتبوح به مؤخرا من خلال نصّ «بغداد وقد انتصف الليل فيها»، نعم،انتصف الليل، لكنها أنصفت ذكرياتها وحياتها في هذه المدينة الساحرة.