هيام عريعر
لا شيء هزلي خارج ما هو بشري، فالإنسان حيوان يعرف كيف يضحك. هذا ما بنى عليه (برجسون) نظريته الأصيلة عن الضحك، إذ يرى أنّه أي الضحك وبرغم كونه نتيجة صوتية لوقائع هزلية، فإنه لا يأتي إلا بسبب توقّع ينحلّ فجأة إلى لا شيء، وإن المسار المأساوي الذي يغطي حياتنا وطابعها الخطير عموما، يُكتسبان من حريتنا التي تدعونا إلى أن نتمسّك بالجدّيّة، فالمشاعر التي أنضجناها والأهواء التي احتضناها والأفعال التي قلبناها وقررناها ونفذناها، وأخيرا ما يصدر عنّا وهو ذاتنا، كلها تؤكد هذا المسار. فهل كان (تود فيليبس) مخرج فيلم (جوكر) يجسّد وقائع تلك النظرية في فيلمه؟ أم أنّها نظرية تنطبق مفاصلها على كلّ عمل يحمل ثيمة الضحك؟
لقد مثلت الضحكات في الفيلم دالّا فلسفيا، ينزع إلى الاستقاء من علم النفس . فما بين نوبات الضحك المرضيّة التي تأتي فجأة ومتواترة ولا يمكن التحكّم بها، وما بين الرغبة في صناعة الضحكات من خلال العروض الكوميدية، ثمّة وجود إنساني يتصارع مع الطبيعة لإثبات ذاته ، ذاك هو وجود (آرثر فليك) بطل الفيلم ، الذي كان يضحك في بادئ الأمر ؛ مجبرا تحت ضغط مرض نفسي يسبب نوبات متكررة من الضحك الهستيري ، لا يمكن التحكم فيها ولا تطابق ما يشعر به من ردود أفعال بأزاء المواقف التي يتعرّض لها ، أو يضحك نفاقا مع أصدقاء العمل لديمومة وجوده فيه . ثم نراه يتمكن أخيرا من أن يضحك بشكل طبيعي ، بعد أن نفذ سلسة من الجرائم ، تبدأ بمترو الأنفاق لتنتقل إلى جارته التي أحبّها و أمّه التي تمثّل جزءا كبيرا من وعيه وحياته وثقافته ، مرورا بزميله البغيض في العمل ، ثم (موري) الإعلامي الذي كان مثله الأعلى ، وختاما بالطبيبة التي كانت تشرف على حالته الصحيّة . فلماذا وقع (فليك) بين تينك الحالتين ؟ ولماذا ركز تود فيليبس مخرج الفيلم على تلك الثيمة النادرة ؟
لا يخفى على من شاهد الفيلم ذاك الربط الخلّاق بين لغة الجسد وبين تطوّر أحداث الفيلم ، وتلك المسألة بدت واضحة منذ المشهد الافتتاحي ، الذي دمج بين ثلاثة أشياء ظلت ممتدة طوال الفيلم ؛ يتجلّى الأوّل منها في نفايات المدينة ، التي تراكمت بسبب تمرد عمال النظافة على سياسة الحكومة غير الرشيدة في التعامل مع مطالب سكان مدينة (غوثام) الافتراضية ، ما أدّى إلى حدوث حالة من الهرج غير المسيطر عليها ، والثاني هو (فليك) نفسه الذي كان يعامل مع جسده بعنف ، في سبيل رسم بسمة يمكن أن ينفق منها على نفسه ، مما يجنيه من عروض هزلية غير موفقة ، والثالث هو صوت المذيعة التي كانت تسرد ما يجري في تلك المدينة من فوضى ، وقد جاء مختلطا بصوت ضحكة خافت ، لتكشف لنا ومنذ الوهلة الأولى ما يشكّله الإعلام من سلطويّة تزيّف الحياة وتحجّمها ، والطبيعة المزيفة كما يرى (برجسون) هي التي تشكّل دافعا هزليا .
لقد كانت المدينة و(فليك) مستسلمان لأتوماتيكية العادات المكتسبة في السلطة والإعلام وما سواهما من مؤسسات المدنية ، ومستسلمان أيضا لحالات التصلب الديناميكية التي تفرض نفسها على السلوك الحضاري ، إذ لم تعد الحياة في تلك المدن هي التي تتحرك بل الأوتوماتكية التي استوطنتها ، فالفرد فيها يعيش حالة من التكرار تتعارض مع طبيعة الحياة المتأجّجة ، وعليه فإن أي انحراف عن تلك الميكانيكية يمثل سببا حقيقيا للضحك . وما دام المعتاد في السلوك الإنساني هو الاندراج في المجتمع والتكيّف معه ، فإن أيّة حالة من حالات التصلب والشذوذ عنه والخروج عن ديناميكيته هو هزل يكون الضحك عقابا عليه ، سيما وأن الهزل لا يمكن تذوقه إن شعرنا أنّنا وحدنا ، فالضحك يحتاج إلى الصدى .
من هنا اعترف (فليك) بأنّ أمّه هي التي كانت تجبره على أن يبتسم ، وأن يظهر تعابير سعيدة ، وأنه وضِع على هذه الأرض لنشر الفرحة والضحكات ، بيد أنها أخبرته في وقت لاحق أنه لا يجب أن يكون مضحكا كي يكون فنّانا هزليا ، وبدمج الأمرين فإن الفوضى والخروج عن المألوف وكسر الرتابة وتحطيم الواقع الحضاري غير المتوائم مع الحرية الإنسانية هي الطرق المثلى لإشاعة الضحك ، فليست المدن من يسحقنا حقيقة إنما رغبتنا في أن نكون.
لقد حطّم (فليك) تلك الرتابة حين قرّر أنّه لا يريد أن يشعر بهذا السوء بعد الآن ، سوء الاعتياد وشرب الدواء ومراجعة الطبيبة ومجاملة صديقه البغيض وتقبل التنمّر والانصياع لجنون والدته التي سبّبت له كل تلك الآلام النفسية . لقد خرج (فليك) على نفسه وروتينه اليومي ، فأخرج سكّان المدينة على نمطها الحضاري وبنيتها المغلقة ونفاياتها التي تتراكم في النفس قبل أن تتراكم في الشوارع الخلفية . فمرض العقل الحقيقي هو الاستسلام للواقع والطبقيّة والرتابة والخضوع لها ، إنّه الرغبة بإرضاء الناس والتصرف معهم بلباقة تشعرهم أنّك لا تعاني من شيء ، في الوقت نفسه الذي يكونون هم فيه من السوء بما يكفي ليجعل من أيّ شخص مجنونا ، ذلك الخروج هو الذي جعل (فليك) يشعر بوجوده الإنسانيّ ، الذي لم يكن متأكدا لوهلة من أنه موجود حقا ، فحين شعر بوجوده وحين بدأ الناس بملاحظته بدأ بالضحك الطبيعي غير المَرَضي وغير المتكلّف ، فالضحك جزء من إثبات الوجود على ما يرى (برجسون) ، والشيء المضحك يدلّ على نقص فردي أو اجتماعي يستدعي التصحيح ، وقد وضع (فليك) يده على تلك المنقصة وعمل على تصحيحها بكل حركة تصدر عن جسده المتهالك وعقله المنهك.
لقد انحرف فليك عن المجتمع بكل قوّته ، أولا حين قام بعمليات القتل لكل الأشخاص الذين يفرضون أنفسهم على حياته فيجعلونها رتيبة متكررة أو قاسية موحشة ، ثم حين غير شكله وتنكّر بصورة جوكر ، فكل تنكّر يصبح هزليا حين يكثّف حياة النفس ظاهريا ويجمّد الحركة ، لكن حركة فليك لم تتجمد بتنكّره إنما انطلقت معلنة طاقاتها الخلّاقة في الرقص ، فلطالما تعارض الجسد والفكر ، ولطالما كان الجسد هو الغالب في النهاية . لقد تمكن فليك من أن يخلق حالة مركّبة ينتظم فيها شعوران ضمن تضادهما ، باعتماد تعايش واقعي يعطينا كمال الشعور المعقد بالحياة . لقد أصبح حرا ، بمجرد أن واجه نفسه بحقيقة ما يدور حوله ، فتجسّدت هنا أبرز التقنيات التي اعتمدها (برجسون) لتحقق الضحك ؛ لا سيما حين قتل المنتفضون مرشح مدينة غوثام السياسي ، الذي يفترض به أن يكون والد (فليك) لكنه أنكر تلك البنوّة ، فقد ضحك فليك هنا بصدق و عمق ، ضحكة لفتت انتباه طبيبته التي تعلم أن ضحكه مرضي ولا يؤخذ به ، وحين سألته عما يضحكه أجابها : لن تفهمي النكتة ، وما ذاك إلا لأن ( التكرار والانقلاب وتداخل السلاسل) كانت قد اجتمعت في حادثة الاغتيال تلك ، بوصفها عناصر فاعلة في صناعة النكتة على حدّ رؤيا (برجسون) . فتكرار الظروف وعودتها من خلال المصادفة ، ثم الارتداد أو انقلاب الوضع ضدّ من ابتدعه وتبدّل الأدوار وازدواج المشاهد . ثم اللبس أو تداخل السلاسل وهو التأرجح بين المعنى الممكن والمعنى الحقيقي ، توحي كلها بوهم الحياة ، و تكشف عن حكاية مضطهد يتحول إلى مجرم بفعل خطأ من فاعل ما . فجوهر الهزل يكمن في الصدمة أو في استقلال خطين في السرد . ثم المصافة التي تجعل كل شيء ينهار حين يتداخلان ، وهو عين ما حدث في الفيلم وما يحدث لكل إنسان تتلاعب القوى المجتمعية به ، فتقلبه إلى مهرج يتقمّص شخصية غير ذاته ، فجدلية الحياة ستخلق منه جوكرا تنبع الكوميديا لديه من داخله ، والهدف سيكون حينذاك هو إثبات الوجود بالضحك من أجل كسر رتابة الحياة وتيبسها.