علوان السلمان
القص القصير جدا، استكشاف اسرار الواقع باتكائه على إشارتين حددهما موكارفسكي وحصرهما في اطار فني ابداعي، اولهما: الاشارة الجمالية المستفزة للذاكرة والنابشة لخزينها الفكري، وثانيهما: الاشارة الايصالية باعتماد لغة يومية والفاظ بعيدة عن الضبابية والغموض، لتشكل نسجنا فكريا، بسردية تصويرية لأزمة الانسان واللحظات الوجودية عبر التداعيات التي يوظفها المنتج (القاص) بقصدية معالجة الواقع بكل ابعاده النفسية والاجتماعية بتسجيل المشهد الحياتي وتحويله الى منجز ابداعي باعث للأسئلة، مع رؤية فكرية، وتقنية اسلوبية وفنية متجاوزة للاستطرادات والتكلف،ومسايرة لحركة العصر الذي وسم بعصر السرعة. وما جاء به حركة الحد الادنى التي نادت بـ (كتابة مختصرة لحياة مختصرة).
وباستدعاء المجموعة القصصية (فراغ النافذة) التي نسجت عوالمها السردية انامل القاصة ايمان قاسم الربيعي واسهمت دار أشرف وخلـدون للطباعـة والنشـر والتوزيع في نشرها وانتشارهـا/2019..لتميزها ببعدها الحكائي واتسامها بسمات شكلية ودلالية انحصرت في الاختزال النوعي للحياة وموجوداتها باعتماد التكثيف والايجاز الجملي والحذف والاضمار مع ابتعاد عن الاستطراد الوصفي عبر الفاظ رامزة تحاكي الواقع وتعبر عن التناقضات القيمية التي يسبح على ايقاعها الفضاء الكوني. وقد احتضن عوالمها السردية بعنواناتها دفتي غلاف انتجته تصميما ذهنية الشاعر حامد عبدالحسين حميدي المتفتحة والكاشفة عن ذوق فني وحس معرفي باختيار لوحة واقعية احتلت الواجهة الامامية.
وقد اطلت من نافذتها فتاتان متأملتان ومنطلقتان من فضاء مغلق الى فضاء مفتوح يقترن بانفتاح ظلفتي النافذة، وهي تجمع ما بين ثنائية متضادة تمثلت في: اللون الابيض دلالة النقاء والاسترخاء واللون الرمادي الدال على واقع قلق،مأزوم،وقد اعتلاها اسم المنتج واتكأت على الايقونة العنوانية الدالة والتي توسدت جنس المنجز بفونيميها المشكلان لجملة أسمية مضافة حذف احد اركانها. أما الواجهة الخلفية فقد توسطتها ذات اللوحة التي طرزت الواجهة الامامية، اضافة الى اهداء ومقدمة كشفت بعض المضامين النصية واساليبها البنائية، منها(فراغ النافذة) تطالعنا برؤية جادة في رصد كل ما يقع تحت مد بصر منتجتها بتسليط كامرتها الواقعية للولوج في متاهات الحياة واعبائها..) ص7..
(يتحسس بيده اليمنى تضاريس وجهه ببطء، وأنامل يده الاخرى أخذت تتحسس الصورة المعلقة على الجدار،يقيس عوامل التعرية هنا وهناك،أخاديد ووديان جافة حفرت مجاريها عبر السنين،الأهلة الساكنة تحت جفنيه،يواسي دثاره المتراكم،ما زلت شابا، يأتيه صوت من الصالة،تأخرت عن عزاء آخر رفاقك الاحياء..) / ص17..
فالرؤية السردية عند القاصة مقترنة بمنطق جمالي من خلال المشهد ومنطق الحياة وحركتها التي شكلت احد معطيات المستوى الحسي للنص، كونها توظف الاشياء بطريقة موحية اسهمت في تطوير البناء الدرامي، اضافة الى توظيف الجزئيات للكشف عن دخيلة الشخصية وتطوير الحدث مع التركيز على الجوانب المعتمة التي تعتري الانسان، عبر نص يحمل دلالاته ويعبر عما يختمر داخل الذات القلقة التي تتصارع والغربة المكانية، اضافة الى ان الساردة تعبر عن مضامينها من خلال وعي الشخصية بحكم امتلاكها رؤية للحياة التي تمنح الناحية الفكرية اهمية استثنائية تكشف عما يدور في دخيلتها بتوظيف تقنيات فنية كالتنقيط الدال على الحذف الذي يستدعي المستهلك لملء بياضاته، وهناك اسلوب الاستفهام الباحث عن جواب يسهم في اتساع مديات النص ،اضافة الى تتابع الاحداث بترتيب زمكاني مع تكثيف الاحساس في صور مركبة داخل بنية نصية تركز على الوعي مع قوة العاطفة.
(كانت نظراته تحدق في فراغ النافذة التي يغشيها سواد الليل البهيم، لا كهربا في اي مكان، قنابل تعزف الحان الدمار واصوات صراخ هنا وهناك، صمت يحل سريعا بعدما تهدأ ذبذبات الموت،هي المحلات لكنها خاوية على عروشها، كما جيوبه المتهرئة، نظر الى السماء فهطلت سحب عينيه تغسل لحيته الكثة..) ص37ـ ص38..
فالنص يكشف عن اغتراب انساني وجدب مكاني وتلوث زماني بمشاهده الناتجة عن اختزال الحياة في الحرب وادانتها بمهارات فنية واخيلة خصبة في التراكيب البنائية التي تعتمد آلية الاقتصاد اللفظي واعتمادها تقنية التناص القرآني الدالة بلغة ايحائية رامزة تؤطره واحداثه وشخوصه..
وبذلك قدمت القاصة اللامي عبر منجزها هذا نصوصا تتنوع خصائصها وتتوزع ما بين سمات موضوعية وبنيوية وفنية،مع اتكاء على الواقعية منهجا والحلمية تشويقا واللذان يعبران عن الحالة النفسية باسترسال ينتهي بضربة اسلوبية إدهاشية مفاجئة.