تداولت وسائل التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يتحدث فيه الناشط الاكثر شهرة في احتجاجات مدينة الناصرية السيد علاء الركابي، عن ترشيح نفسه لمنصب رئيس مجلس الوزراء، داعياً المتواجدين في ساحات الاعتصام لاجراء استفتاء على ذلك، ليكون ووفقاً لما جاء في خطابه بمثابة “تفويض من الشعب”..؟! ردود الافعال الاولية على تلك الخطوة لم تكن في صالح ذلك الاندفاع للتنطع بمسؤوليات الموقع التنفيذي الاول في مركب الدولة العراقية المتهاوي. لا أعرف بالضبط تفاصيل الظروف والمناخات التي دفعت بالسيد علاء الركابي، لركوب مثل هذا الخيار البعيد عما حملته الاحتجاجات من شعارات ووعود، الا ان الامر المؤكد حوله يشير الى افتقاره لكثير من مقومات الموقف المسؤول والرصين. أولا وقبل كل شيء علينا التوقف أمام عبارة “تفويض من الشعب” ذلك “التفويض” الذي اختزله السيد الركابي بـ “المتواجدون بساحات الاعتصام” وهو طرح يعيدنا الى ترسانة “الشرعية الثورية” والتي تعد امتداداً لما في موروثاتنا من مدونات وثقافة “الفرقة الناجية”. أما موضوعة “الشعب” والتي حيرت الملك فيصل الاول فما زالت وبالرغم من مرور مئة عام ملتبسة ومبهمة على الصعيد النظري واشد تشرذما على الصعيد العملي، وهذا ما برهنته بقوة حقبة الفتح الديمقراطي المبين وعقده التحاصصي المتين.
الامر الذي لا ريب فيه والذي يحاول البعض عبثا القفز على تضاريسه الممتدة من الفاو لزاخو، اننا ورثنا تركة ثقيلة وفواتير علينا تسديدها لا تقتصر على الديون المالية الضخمة وحسب، بل الاشد فتكاً منها؛ أي حطام البشر والقيم وقدرات المجتمع (افرادا وجماعات) على وعي ضرورة التحولات الفعلية والقدرة على تحويلها الى واقع. اي ان الادراك الاولي لتعقيدات المشهد الراهن، يدعونا الى التريث واجتناب فتنة الحلول الجذرية والسريعة والتي سرعان ما تتحول الى “دقلة” اضافية تنضم الى ارشيفنا المثقل بالدقلات. كما ان محطات تاريخنا الحديث وتجارب المجتمعات القريبة منا والبعيدة، تدعونا الى تجنب مثل هذه المسارب غير الآمنة. يفترض ان الاحتجاجات التي انطلقت قبل اربعة أشهر، قد دعت الى اجراء انتخابات مبكرة يرافقها وضع قانون انتخابي جديد وايجاد مفوضية مهنية ومستقلة للانتخابات مع وجود اشراف اممي. وكي تكون الاحتجاجات منسجمة وما رفعته من مطالب عادلة ومشروعة، يفترض بها ان تعد العدة وتحشد قاعدتها الشعبية والاجتماعية والسياسية، كي تحصل على “تفويض الشعب” عبر صناديق الانتخابات لا ساحات الاعتصام..
لاسباب تاريخية وموضوعية عاشها سكان هذا الوطن المنكوب، يمكن القول وبشكل قاطع؛ باستحالة حصول أي شخص (مهما كانت مواهبه ومآثره) أو حزب وكيان سياسي، في الظرف الراهن؛ على “تفويض من الشعب”. وهي حقيقة قد تبدو صادمة وشديدة الاحباط للبعض، لكنها تختزن ما نحتاجه فعلا من معطيات وحقائق ينبغي التعاطي الشجاع والمسؤول معها. وهذا ما سوف تكشف عنه الايام والاشهر المقبلة. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ما ينتظر الاجيال الجديدة من تحديات هائلة في مهمة التأسيس لولادة احزاب سياسية جديدة، ذلك التحدي الذي شخصه اسلافنا في الاربعينيات من القرن المنصرم، عندما رفعوا شعار (لا انتخابات بلا احزاب سياسية)، وعنده ستدرك الاجيال الجديدة حجم ما ينتظرهم من مخاطر وتحديات، تتطلب منهم الاستعداد وصقل أفضل ما لديهم من مواهب وقدرات على العمل والابتكار والتواضع والايثار..
جمال جصاني