متابعة الصباح الجديد:
قط يعاني من وجود فأر مزعج يشاركه منزله، ويحوك خططاً لا تنتهي للتخلص منه،لكن حين يضع القط مصيدة فئران مفخخة بقطعة شهية من الجبن، يتمكن الفأر الماكر من خداع المصيدة، وبمعدة ممتلئة يهرب منتصراً ليلوذ بوكره الآمن.
لا بد أنكم عرفتم بطلي القصة، بل وتكهنتم بالشكل الذي تنتهي به دائماً: القط، توم يصرخ بغضب، أما مصير خطته الجديدة للتخلص من خصمه اللدود الفأر جيري، فلن تنتهي إلا بنتائج عكسية، تماماً مثل سابقتها.
قد تكون قصص مغامرات توم وجيري معروفة للجميع، ولكن الحكاية الحقيقية لكواليس إنتاجها ليست كذلك، ولعلها لا تقل إثارة: من الفوز بجوائز الأوسكار إلى الإنتاج السري خلف الستارة الحديدية خلال فترة الحرب الباردة. هكذا أصبح توم وجيري اللذان أتمّا هذا الأسبوع 80 عاماً من المطاردات المتواصلة، أحد الثنائيات الأشهر في العالم، وربما ليس في عالم الرسوم المتحركة فقط.
كان فنانا الرسوم المتحركة الشريكان بيل هانا وجوزيف باربيرا يعانيان من حالة إحباط في قسم الرسوم المتحركة في استديو ميترو غولدن ماير، ويشعران بحاجة ملحة لابتكار شخصيات قادرة على منافسة الشخصيات الكرتونية الناجحة مثل ميكي ماوس، وبوركي بيغ والتي تنتجها استديوهات أخرى.
وحاول الشريكان الشابان، اللذان لم يكونا حينها قد بلغا الثلاثين من العمر، تطوير أفكارهما. وكان باربيرا يميل إلى فكرة بسيطة لعمل كارتون عن قط وفأر تجري بينهما صراعات ومطاردات مستمرة، برغم كون الفكرة معروفة وسبق استعمالها.
وكان فيلم «قط يحصل على جزمة»، عرض في عام 1940، وحقق نجاحاً كبيراً، وفاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم رسوم متحركة قصير. ولكن بالرغم من جهدهما في صنعه، فإن هانا وباربيرا لم يذكر اسميهما عند إعلان الفوز.
كان ذلك الفيلم هو النواة التي تطورت منها فكرة توم وجيري.
في البداية، لم يكن مدراء استديو ميترو غولدن ماير متحمسين لفكرة القط والفأر، وحذروهما من مغبة وضع كل البيض في سلة واحدة. ولكن الموقف تغير حين وصلت رسالة من شخصية مؤثرة في عالم صناعة الرسوم المتحركة في تكساس تطالب بقصة أخرى من «الرسوم المتحركة الرائعة عن القط والفأر».
ومع تبلور الفكرة، تحول جاسبار القط إلى توم، وجينكس الفأر، إلى جيري.
ووفقاً لباربيرا، لم يكن هناك نقاش حقيقي حول كون الشخصيات صامتة، وبوجود أفلام تشارلي شابلن الصامتة تأكد المبدعان من قدرة الشخصيات على إضحاك المشاهدين في غياب أي حوار، ولعبت الموسيقى التي ألفها سكوت برادلي دوراً مهماً في تصعيد المواقف، في حين أدى هانا بنفسه صرخات توم الشهيرة، التي أصبحت بشبهها بصراخ البشر، علامة مميزة لشخصية القط الأحمق الغاضب.
وخلال عقدين من الزمن، أنتج هانا وباربيرا أكثر من 100 حلقة من هذه المغامرات. وكان العمل على كل منها يستغرق عدة أسابيع، وبكلفة تصل إلى 50 ألف دولار أميريكي. ما يعني أن سنة كاملة لا يمكن أن ينتج فيها سوى بضع حلقات فقط.
وعدت الرسوم المتحركة توم جيري من الأنجح في العالم، وبفضل الرسم اليدوي الدقيق لشخصياتها وخلفياتها الغنية بالتفاصيل، نالت سبع جوائز أوسكار، كما ظهرت في أفلام هوليوودية عديدة.
ويقول جيري بيك، الخبير بتاريخ أفلام الكارتون «أراهن أنك حين شاهدت حلقات توم وجيري سواء عندما كنت طفلاً، أو الآن، فستشعر برغبة كبيرة بمعرفة تاريخ صنعها».
ويضيف «هناك شيء خاص يميز الرسوم المتحركة. إنها مزدهرة دائماً، لا تتلاشى أبداً، الرسم هو رسم. الأمر يشبه شعورك عندما تشاهد لوحة في متحف. نعم، نحن نعرف أنها تعود إلى القرن التاسع عشر، أو القرن الثامن عشر. لكن لا يهم، إنها ما تزال موجودة، وتؤثر بك حتى اليوم».
ويضيف بيك قائلاً إن الرسوم المتحركة «فن رائع. وهي ليست تسلية مؤقتة على الإطلاق بحيث يمكن رميها لاحقاً».
في عام 1957 أسس باربيرا وهانا شركتهما الخاصة عقب إغلاق قسم الرسوم المتحركة في شركة ميترو غولدن ماير وذلك بعد صعود شعبية التلفزيون، وإدراك مدراء الشركة أن بيع الحلقات القديمة يمكنه أن يحقق لهم مكاسب مماثلة للحلقات الجديدة. إلا أن ميترو غولدن ماير قررت عقب ذلك بعدة سنوات إحياء توم وجيري، ولكن من دون التعاون مع مبدعيّ الشخصيات الأصليين. وفي عام 1961 أسست الشركة استديو في مدينة براغ لتوفير التكاليف، وكُلف جين ديتش، فنان الرسوم المتحركة المولود في شيكاغو، بالإشراف على إنتاج حلقات جديدة، لكنه عانى من ضيق الميزانية، إضافة إلى أن فريق العمل لم تكن لديه أي معرفة بالشخصيات الأصلية.
وبسبب وجود الستارة الحديدية الشيوعية في ذلك الوقت، فإن أياً من رسامي الكارتون في استديو براغ، لم يسبق له أن شاهد حلقات توم وجيري على الإطلاق، بحسب ديتش.
كما أنتج الاستديو الذي يشرف عليه ديتش، وبشكل سري حلقات من رسوم متحركة أخرى، ولكن تم تحويل أسماء الرسامين وفريق العمل لتبدو أميريكية بدل أصلها التشيكي، لكي لا يربط المشاهدون هذه الحلقات مع الحكم الشيوعي في تشيكوسلوفاكيا.
كان ديتش يعلم أنه بوصفه أول فنان يحاول تقليد الأصل، سيكون في مرمى النار من قبل معجبي توم وجيري. ولطالما عدت الحلقات الـ 13 التي انتجت في براغ بإشرافه هي الأسوأ على الإطلاق في تاريخ الشخصيتين الشهيرتين، بل وفي مقابلة معه كشف ديتش أن الأمر وصل إلى تلقيه تهديداً بالقتل.
بعد ديتش، أوكلت المهمة للفنان تشاك جونز، الذي اشتهر بعمله على الرسوم المتحركة «لوني تيون» مع استديوهات وورنر براذارز. وفي عهده أصبح حاجبا توم أثخن، كما تغير شكل وجهه.
لكن هانا وباربيرا، لم يلبثا أن عادا إلى الواجهة في متروغولدن ماير. ومع حلقات أطول وميزانيات أقل، قاما بتكييف أسلوبهما في الرسوم المتحركة، واستعملا حيلاً ذكية لتوفير الوقت والمال.
وسيطرت الرسوم المتحركة التي صنعاها على حصة الأطفال من البرامج التلفزيونية طوال عقود. وحققا النجاح في ستينيات القرن الماضي مع مسلسلات وشخصيات كارتونية شهيرة من بينها «المتحجرون»، و»سكوبي دوو».
في السبعينيات عاد الثنائي إلى توم وجيري. وفي ذلك الوقت، كان العديد من الحلقات المبكرة تعد «عنيفة للغاية» بموجب توجيهات جديدة خاصة بالبث التلفزيوني. إلا أن الحلقات الجديدة التي أنتجت حينها عن الثنائي اللدود توم وجيري، وصورتهما كصديقين، لم ترق أبداً إلى مستوى نجاح الحلقات الأصلية الأولى.
وكحال بقية انتاجات الرسوم المتحركة في ذلك الزمن، تعرضت حلقات توم وجيري، لكثير من الانتقادات، واتهمت بالعنصرية، خصوصاً بوجود شخصية «مامي تو شوز»، مدبرة المنزل السوداء السمينة التي لا يظهر منها سوى القسم السفلي وساقيها الغليظتين وحذائها الأسود الكبير. إضافة إلى تضمنها نكاتاً تسخر أحيانا من آسيويين أو من سكان أميريكا الأصليين.
عندما عرضت الحلقات الأصلية الأولى على التلفزيون الأميريكي في ستينيات القرن الماضي، تم تعديل بعض المشاهد، واستبدلت شخصية مدبرة المنزل مامي بشخصيات أخرى من إبداع فريق تشاك جونز. أما اليوم فقد أزيلت الحلقات التي عدت مسيئة من المجموعة التي يعاد بثها. وتم تدارك ذلك بعد أن وجهت «أمازون برايم إنستانت فيديو» تحذيرات من عنصرية ظهرت في الحلقات.
لكن رسوم توم وجيري المتحركة، بما تتضمنه من عنف هزلي، وكوميديا سوداء في بعض الأحيان، ما تزال اليوم تتمتع بشعبية هائلة في جميع أرجاء العالم، وهي تعرض على التلفزيونات ضمن برامج الأطفال في كل مكان من اليابان إلى باكستان. وفي الصين استقطبت لعبة «توم وجيري» على تطبيق خاص بالهواتف المحمولة أكثر من 100 مليون مستعمل .