خولة بو كريم *
26 طفلاً تونسياً ما زالوا يقبعون في السجون الليبية بين مصراتة وطرابلس برفقة أمهاتهم اللواتي يرفضن تسليمهم من دون العودة معهم إلى تونس.
26 طفلاً تونسياً ما زالوا يقبعون في السجون الليبية بين مصراتة وطرابلس برفقة أمهاتهم اللواتي يرفضن تسليمهم من دون العودة معهم إلى تونس.
“كان عمره اربع سنوات عندما قمنا بإيوائه في الهلال الأحمر في مصراتة، أتانا مصابا في يده برصاصة”.
بهذه الكلمات يتحدث مسؤول الدعم النفسي في فرع الهلال الأحمر في مصراتة في ليبيا، فيصل جلول، لـ”درج”، للمرة الأولى عن مصعب أو مهند، كما يحلو لموظفي الهلال الأحمر الليبي مناداته. ولربّما اسم مصعب وما يحمله من دلالات قاسية وغليظة لا يروق لهم كثيراً.
مهند أحد الأطفال التونسيين الستة من أبناء عناصر تنظيم “داعش” المقاتلين في ليبيا، والذين أعادتهم الدولة التونسية في 23 كانون الثاني2020، واستقبلهم رئيس الجمهورية قيس سعيّد بنفسه، إبّان وصولهم في قصر قرطاج.
يخبرنا جلّول أن من أصعب المهمَّات التي أنجزها الهلال الأحمر الليبي في الفترة الماضية هي مساعدة مهند على تجاوز إصابته والشفاء منها، مضيفاً “قمنا بكل ما في وسعنا حتى يخضع لعملية جراحية معقدة في يده، نحمدُ الله أنها تكللت بالنجاح، وكلفت أكثر من 30 ألف دولار أميركي وهو مبلغ ضخم لم نكن لننجح في تأمينه لولا مساعدات استثنائية من اللجنة الدولية للصليب الأحمر”.
الأطفال التونسيون الستة تم تأمينُ انتقالهم تحديداً من منطقة الجيزة البحرية في سرت إلى مركز الهلال الأحمر في مصراتة أثناءَ عملية البنيان المرصوص عام 2016.
يؤكد جلول أن “إيواءهم في مركز الهلال الأحمر كان مقرَّراً ألا يتجاوز الشهرين، لكنهم مكثوا هناك ثلاث سنوات تقريباً”.
ومن المتعارف عليه دولياً أن مراكز الهلال الأحمر ليست مؤهلة لاستقبال مدنيين لمدة طويلة، لا إمكاناتها اللوجستية تسمح ولا الأعراف الديبلوماسية والإنسانية تنص على ذلك، على وفق تعبير محدثنا.
يؤكد نجيب الرايس مدير فرع الهلال الأحمر في مصراتة لـ”درج” أنَّ “فريقاً من المباحث الجنائية التونسية زار قبل سنة ونصف السنة مصراتة حتى يأخذ عينة من الحمض النووي للأطفال، ويتأكد من مدى تطابقها مع المقاتلين الذين لقوا حتفهم في عملية البنيان المرصوص”.
بلاغ رئاسة الجمهورية التونسية الصادر إبَّان استقبال الأطفال أشارَ بشكل واضح إلى أن موضوع عودة الأطفال العالقين في ليبيا محلُّ عناية خاصّة ومتابعة دقيقة من قبل رئيس الجمهورية.
وعلى رغم تأكد تطابق الحمض النووي للمقاتلين التونسيين وأطفالهم الستة إلا أن الدولة التونسية لم تعد أبناءها إلا في 23 كانون الثاني 2020.
بلاغ رئاسة الجمهورية التونسية الصادر إبَّان استقبال الأطفال أشارَ بشكل واضح إلى أن موضوع عودة الأطفال العالقين في ليبيا محلُّ عناية خاصّة ومتابعة دقيقة من قبل رئيس الجمهورية، وأحدُ أبرز محاور لقائه برئيس المجلس الرئاسي لحكومة الوفاق الوطني الليبية فائز السراج. وذلك خلال زيارته الأخيرة إلى تونس في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2019، إذ اتفق سعيّد والسراج على أهمية تأمين عودة سريعة لهؤلاء الأطفال إلى عائلاتهم في تونس.
توضح هذه الخطوة ملامح الديبلوماسية التونسية المستجدة فيما يتعلق بمسألة عودة التونسيين العالقين في مناطق النزاع، وتحديداً الأطفال التونسيين من أبناء عناصر تنظيم “داعش”.
بدا واضحاً أن قرار عودة الأطفال، قرار سياسي بالأساس، ما يطرح اسئلة عن موقف السلطات التونسية من الأطفال التونسيين الآخرين العالقين في مناطق النزاع بما فيهم ليبيا وسوريا، وحتى الأطفال الذين ما زالوا في أحضان أمهاتهم في مخيمات وقواعد عسكرية. وكان “درج” التقى في سلسلة تحقيقات “المصنع” عائلات تونسية نادت في عهد رئيس الجمهورية الراحل الباجي قائد السبسي بعودة أحفادها، في حين تجاهلتها السلطات التونسية ولم تعطها جواباً شافياً حتى اللحظة.
القنصل التونسي العام في ليبيا توفيق القاسمي يؤكد أنه حتى اللحظة هناك 21 طفلاً في سجن “الجوية” في مصراتة برفقة أمهاتهم (عددهن 10)، علاوة على وجود 15 طفلاً في سجن طرابلس برفقة أمهاتهم الـ15. والأمهات هن زوجات مقاتلين تونسيين في تنظيم “داعش” لقوا حتفهم في مدينتي سرت وصبراطة.
يقول القاسمي في هذا السياق: “هنَّ زوجات إرهابيين تونسيين قد يكن بريئات، لكنهن في موقع اتهام لدى القضاء الليبي، المخول الوحيد في حسم مصيرهن”.
ورداً على سؤال عن وجود مساعٍ تونسية لاستعادة هؤلاء النسوة ومحاكمتهن في تونس، أكد القاسمي أن القنصلية طالبت القضاء الليبي بمدها بملفاتهن وإطلاع السلطات التونسية على التهم الموجهة إليهن، وهي في انتظار الرد الذي لم يصل حتى الآن.
المحصلة إذاً، 26 طفلاً تونسياً ما زالوا في السجون الليبية بين مصراتة وطرابلس، برفقة أمهاتهم اللواتي يرفضن تسليمهم من دون العودة معهم إلى تونس.
تحدث “درج” مع الدكتورة منجية النفزي مديرة مدرسة الدكتوراه في جامعة الزيتونة التونسية وهي متابعة للملف، التي ترى أن “من حق الدولة استعادة هؤلاء النسوة وتأهيلهن ومن واجبها جمعهن بأطفالهن، أما اللاتي قتلنَ أو تسببنَ في القتل، فالقضاء أولى بهن”، مضيفة “من الضروري عند استقبالهن توفير الإحاطة النفسية والاجتماعية لهن حتى يعدن تدريجياً إلى مجتمعاتهن الأصلية”.
بالعودة إلى الأطفال الستة العائدين أخيراً إلى تونس، فقد أُبلغت السلطات التونسية بوجودهم في فرع الهلال الأحمر الليبي في مصراتة خلال تشرين الأول/ أكتوبر 2018، وذلك بالتزامن مع تقديم مجموعة من العائلات التونسية في الشهر ذاته، عرائض لوزارة الشؤون الخارجية تطالب بإعادة هؤلاء الأطفال بعد تبلّغها بأن هؤلاء الأحفاد على قيد الحياة في مصراتة.
نتائج متطابقة
يوضح القاسمي أنه في الأول من كانون الثاني 2019 أرسلت السلطات التونسية فريقاً من المباحث الجنائية إلى مصراتة، حتى تتأكد من تطابق نسب الأطفال السالف ذكرهم مع المقاتلين التونسيين. فلربما يكونون من أب أجنبي وأم تونسية. وعلى رغم ظهور نتائج متطابقة في هذا الخصوص في شباط 2019 وصدور قرار إعادة الأطفال إلى تونس في الثالث من آذار 2019، بالتنسيق مع السلطات الليبية، لكن ذلك تعذَّر بسبب الوضع الأمني في تلك الفترة.
يضيف: “السلطات الليبية أرجأت عملية تسليمنا الأطفال نظراً إلى صعوبات لوجستية وظروف أمنية على الأرض نتفهمها، وبقينا نتابع الموضوع حتى زيارة فايز السراج تونس ولقائه قيس سعيد. وتمسكنا بالاتفاق الذي أخذه الطرفان بتسهيل إجراءات العودة إلى أرض الوطن”.
الأطفال التونسيون الستة لم يتم تسجيلهم في المدارس الليبية، بل تلقوا في فرع الهلال الأحمر في مصراتة حلقات دروس دينية وتم تحفيظهم القرآن.
مسؤول الدعم النفسي في فرع الهلال الأحمر في مصراتة فيصل جلول يفيد “درج” بأن “الإحاطة التعليمية والتثقيفية للأطفال لم تقتصر على تعليمهم القرآن فقط بل كان هناك توجيه خاص لملكاتهم الإبداعية نحـو الرسـم والتلويـن وإسقاط أفكارهـم علـى الـورق الأبيـض”.
هؤلاء كانوا تحت رعاية معنوية خاصة من موظفات الهلال الأحمر الليبي، اللواتي استصعبن فراقهم وخيَّم عليهن جو من الحزن بعد تسليمهم من جملة 53 طفلاً.
هؤلاء جميعهم أبناء لعناصر من تنظيم “داعش” قاتلوا في ليبيا، من جنسيات متنوعة، تونسية، سنغالية، مصرية، سودانية، بريطانية، على وفق الرايس.
جدل بعد العودة
مذ نشرت الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية فيديو استقبال سعيد الأطفال الستة في قصر قرطاج، تعالت الأصوات المؤيدة والمعارضة على صفحات التواصل الاجتماعي وحتى في بعض العناوين الإخبارية. وذهب البعض إلى اتهام الرئيس بدعم الإرهاب وتمجيده واحتضان أطفال “الدواعش”، وتجاوز أطفال يتامى الأمنيين التونسيين الذين قتلوا في عمليات إرهابية.
نقيب الصحافيين التونسيين ناجي البغوري كتب في تدوينة على “فيسبوك”، أن “الأطفال يظلّون أطفالاً (يتمتّعون بكامل حقوق الطفل) مهما كان لونهم وجنسهم ومكان ولادتهم، وهم لا يتحمّلون وزر ما اقترفه آباؤهم، ومن يرى غير ذلك يجب أن يتوجّه فوراً إلى مصحّة نفسية”. رأي خالفته ماجدولين الشارني، وزيرة الشباب السابقة وشقيقة سقراط الشارني، أحد العناصر الأمنية الذي قتل منذ سنوات على يد مجموعة إرهابية.
وجهت الشارني رسالة إلى الرئيس قيس سعيّد، في تدوينة نشرتها على صفحتها عبر “فيسبوك”، قالت فيها: “أتعلم أن من استقبلتهم هم أبناء إرهابيين؟ أتعلم أن البيان الرسمي الذي أصدرته فيه مغالطة للرأي العام وتعمّد استعمال عبارات أخرى للاستعطاف؟ أكيد هؤلاء الأطفال لا ذنب لهم، وهناك الآلاف من ضحايا الحرب والإرهاب في سوريا والعراق وليبيا، والاعتناء بهم جميعاً واجب الدولة، لكن أن يتم تنظيم استقبال رسمي لأبناء الإرهابيين دون غيرهم فهذا غير معقول”.
وتؤكد النفزي أن استقبال الرئيس أطفالاً يتامى، عمل إنساني وديني ووطني، لا سيما أن هؤلاء الأطفال لا سند لهم وموصومون بالإرهاب، مضيفة في هذا السياق “وإذا كانت الإنسانية تقتضي أن نرأف بالحيوانات وبالنبات، ألا نرأف بهؤلاء الأطفال؟”.
أما على المستوى الوطني، فتشير النفزي إلى أنه من واجب رئيس الدولة والمسؤولين المعنيين بحماية الطفولة أن ينفقوا على هؤلاء الأطفال ويمنحوهم حقوقهم استجابة للقوانين الوطنية والمواثيق الدولية الحامية حقوق الطفل.
ومع استمرار الجدل حول عودة الأطفال الستة وغيرهم من العالقين في ليبيا وسوريا، علاوة على ارتفاع مؤشر الإرادة التونسية في استعادتهم، يبقى السؤال ملحاً، هل سنشهد في ظل حكم الرئيس قيس سعيد استعادة أطفال عناصر تنظيم “داعش” جميعاً؟
- صحافية تونسية
عن موقع درج