لا حدود لما تم سحقه وهدره من بشر وقيم وثروات مادية وقيمية زمن “جمهورية الخوف”، ذلك المنحى الذي عجز العراقيون وبالرغم من مرور 17 عاماً على ما يفترض انها مرحلة للعدالة الانتقالية، من الانعطاف بعيدا عن ممارساته وتقاليده المدمرة. هذا الانسداد والعجز المزمن والذي يتطلب جهدا نظريا واسعا، لم يحظ من غالبية المنتسبين لنادي الانتلجينسيا باي التفاتة جادة ومسؤولة، ليس هذا وحسب بل لم يكتفي غير القليل منهم بالصمت تجاه تلك القضايا الشائكة، عندما اصروا على التعاطي معها بكل خفة، عبر اجترار الشعارات والتمنيات والديباجات التي عفا عليها الزمن، واسقاطها على اصطفافات وتجاذبات مشهد لا علاقة له بكل تلك “التحليلات” و “الخطابات” المسلفنة، والمعشعشة في مخيلاتهم من عصور مضت وانقضت. ان الاصرار على اتباع منهج الاستسهال والاستغفال، الذي يوهم المتلقين ولاسيما منهم شريحة الشباب المحتج على الاوضاع البائسة والمتردية للبلد؛ بانهم قاب قوسين او ادنى من تحقيق مأثرة أو “تصنعون معجزة” لم يعرف مثلها تاريخ العراق الحديث منه والقديم، وغير ذلك من ادعاءات احراز “الانتصار الحاسم” والقذائف التي لا تترك خلفها سوى المزيد من الدخان والعتمة.
لدوافع شتى (محلية واقليمية ودولية..) اثقلت حركة الاحتجاج وبشكل مكثف وممنهج، بسيل من الاوصاف والعناوين البعيدة عن امكاناتها وقدراتها الفعلية، وصل بها الامر الى الحد الذي جعل من عدم امتلاكها لقيادات رصينة وواضحة، وهرم اولويات ومطالب واقعية وهياكل تنظيمية على استعداد لمواجهة التحديات المقبلة؛ الى انها من مصادر قوة وعبقرية لذلك الحراك. في الوقت الذي برهن مجرى الاحداث والوقائع على الارض وفي ساحات ومواقع الاحتجاج؛ على عكس ذلك تماماً، وهذا ما ستؤكدة بقوة التطورات المقبلة، والتي ستكشف عن حجم مخاطر واضرار منهج الاستسهال والاستغفال في التعاطي مع مثل هذه القضايا المصيرية. الاجيال الجديدة من العراقيين لا يحتاجون “النصائح والاستشارات” البطرانة، والتي توهمهم بقدراتهم الخارقة على اجتراح المعجزات، في الوقت الذي يفتقدون فيه الى أهم شروط وضمانات المواصلة والاستمرار لاجل تحقيق مطالبهم العادلة والمشروعة، أي الملاكات والتنظيم وهرم الاولويات. ان فخ “العفوية” الذي تم الترويج له وسط ساحات الاحتجاج، قد جاء من القوى والجهات المدججة بالتنظيم والملاكات ومصادر التمويل، لمآرب لا تخفى على المتابع الحصيف.
بغض النظر عما تمخضت عنه التجاذبات وعمليات التسوية، بين مختلف الاطراف داخل العملية السياسية وخارجها، وما انتهت اليه من تكليف السيد محمد توفيق علاوي لادارة مرحلة التمهيد لاجراء انتخابات مبكرة؛ فان المعطيات والتحديات الفعلية بدأت بتقليص سطوة الهلوسات والشعارات المجنحة والفزعات، التي رافقت اندلاع الازمة قبل أربعة أشهر، ولن يمر وقت طويل حتى يجد الجميع أنفسهم أمام “صخرة الواقع” وما تفرضة من مسؤوليات وواجبات خذلناها طويلاً. ان رفع سقف المطالب والتوقعات الى مدياتها القصوى، وفي مثل ما شرنا اليه من حال واحوال المجتمع (افرادا وجماعات)، لا يمت للقوة والحكمة بصلة، وغالبا ما يؤشر الى عكس ذلك تماماً، حيث النفس القصير والمحاولات البائسة لحرق المراحل، التي تلحق أفدح الاضرار بالنشاطات والتطلعات المشروعة، لانتزاع الحقوق وصيانتها من كل التهديدات حاضرا ومستقبلاً. ان محاولات القفز على تضاريس الخراب (المادي والقيمي) لن يعفينا عن متطلبات المواجهة الطويلة والمريرة التي تنتظرنا لاعادة الاعتبار لوطن وارث خذلناهما طويلاً…
جمال جصاني