هيثم نعمان
اتسمت المظاهرات التي اندلعت في العراق في تشرين الأول/ أكتوبر 2019 بالعفوية والجماهيرية والتميز في التعبير عن المطالب، وغياب كامل للأحزاب السياسية، حيث ساهم في تحريكها ناشطون مدنيون يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي للتعبير عن رأيهم ومطالبهم الشعبية بلا توجيه من أي أحزاب سياسية.
ومع ذلك، واجهت الحكومة العراقية تلك الاحتجاجات بالقمع والقتل والاختطاف والاختفاء القسري، وقامت بقطع وسائل الاتصال والأنترنت والتعتيم الإعلامي بشكل دوري، كما استهدفت القوات المدعومة من قبل إيران الصحفيين على وجه الخصوص بعد نشرهم تقارير تغطى الاحتجاجات.
ونتيجة العنف المتزايد، سقط ما يعادل 500 قتيل عراقي وآلاف الجرحى، مما دفع عبد المهدى إلى تقديم استقالته في التاسع والعشرون من تشرين الثاني /نوفمبر الماضي. والآن، أصبح العراق عالق في مأزق سياسي، وقد زاد هذا المشهد تعقيدًا بعد مقتل قاسم سليماني في وقت سابق من هذا الشهر. ويبدو أن سليماني كان يسعى للبحث عن وجوه جديدة تكون ذات قبول جماهيري وذات ولاء لإيران وأجندتها المستقبلية في المنطقة. وبالطبع، لا تمثل استقالة عبد المهدى الحل النهائي للازمة ولا تلبي مطالب المحتجين في العراق. ومع بداية التصعيد الأخير في العراق بين إيران والولايات المتحدة، برزت أهمية القيادة السياسة في العراق.
وفى حين انتهى دور عبد المهدي من الناحية العملية، إلا انه يحاول حاليًا دعوة الأحزاب السياسية السنية والكردية في العراق لدعم تمديد فترة ولايته. وفى ظل هذه الظروف، سعى البرلمان العراقي لإيجاد مرشحين جدد لشغل منصب رئيس الوزراء دون جدوى، وهو ما قد يدعم إعادة انتخاب المهدي كرئيس للوزراء مرة أخرى، وذلك رغم من استقالته قبل شهرين تقريبًا.
وليس من المستغرب أن تتخلى النخب السياسية العراقية عن البحث عن قائد جديد، حيث أن تشكيل حكومة جديدة في العراق خلال العقدين الماضيين قد أظهر أنه واحد من أصعب المهام التي يمكن القيام بها هناك. فعلى سبيل المثال، دامت عملية تشكيل الحكومة في عام 2010 حوالي ثمانية أشهر حتى جاء اتفاق أربيل والذي تمخض عنه حكومة جديدة. وبالنظر إلى مستوى الخلاف الكبير بين التيارات السياسية العراقية، فمن المستبعد جداً أن تتمكن الفصائل السياسية خلال تلك الفترة من التوصل إلى اتفاق بشأن انتخاب رئيس وزراء جديد، وهو ما قد يودي بالبلاد إلى حالة من الفراغ الدستوري.
أن المخرج الحالي المتاح للعراق هو تكليف شخصية وطنية تتمتع بقبول جماهيري وغير منتمية لأي حزب سياسي، بتشكيل حكومة انتقالية تعمل على إضعاف النفوذ الإيراني هناك. وبالطبع يتطلب ذلك الأخذ بمبادئ الشفافية والكشف عن الأعمال التي تقوم بها المليشيات التابعة لإيران وفضحها.
إن حقيقة استمرار الاحتجاجات في العراق لا تظهر أي علامات على التراجع، بل على العكس، تدل على ضرورة استمرار عملية الإصلاح السياسي في العراق بدلاً من السماح للأحداث الدولية بالضغط من أجل الحفاظ على الوضع الراهن والإبقاء على النظام السياسي في العراق. تصاعدت الاحتجاجات في العراق خلال الأسبوعين الماضيين بعد أن أدرك المحتجين أن مطالبهم بإجراء إصلاحات سياسية حقيقية بحلول 19 كانون الثاني/ يناير لم تسفر عن أي نتائج ملموسة. ومع ذلك، فتح عام 2020 الباب أمام احتمال زيادة حالة عدم الاستقرار السياسي في العراق.
ومن المرجح أن تؤدي حالة عدم الاستقرار السياسي هذه إلى استمرار الاحتجاجات التي قد تواجهها الحكومة بمستوى اعلى من العنف مرة أخرى. وفى حين عبرت الجماعات السنية في العراق إلى حد كبير عن تضامنها مع الاحتجاجات وفضلت البقاء خارج الشوارع حتى لا توصم الاحتجاجات بانها «سنية»، إلا أن حالة الإحباط المتزايد في أوساط السنة في العراق قد يدفعهم للانضمام للمحتجين والتركيز بشكل خاص على مواجهة الوكلاء المدعومون من قبل إيران في العراق. وفي نهاية المطاف، قد تصطدم العشائر والجماعات السنية في العراق بشكل مباشر مع المليشيات الموالية لإيران والموجودة على أراضيها. وفى حال حدوث هذا السيناريو ونجح المحتجين في تنظيم وتوحيد صفوفهم، لن يقوى النظام على هذه المواجهة وبالتالي سيتداعى ويسقط.
لذلك، إذا لم يتبني المحتجين خطة سياسية وطنية واضحة للإصلاح تحظى بدعم كل فئات الشعب العراقي، فمن المتوقع أن تختطف ثورتهم. ولنا في ثورات الربيع العربي عبرة، حيث نجحت الثورات في إسقاط الأنظمة، لكنها اختطفت من قبل المؤسسة العسكرية.
والان، وبعد مقتل سليماني، يبدو أن إيران قد خسرت شعبيتها وأصبحت قدرتها على إعادة هيكلة الحكومة العراقية حسب رغبتها غير مؤكدة. ومن ثم، وفي حالة استمرار الاحتجاجات، قد تسعى القوى السياسية إلى التنسيق مع عسكرين فاسدين لإجراء انقلاب شكلي يحافظ على النظام السياسي الحالي ويجري بعض التعديلات الشكلية، وهو سيناريو محتمل في ظل وجود قيادات عسكرية فسادة، وجيش مخترق من قبل الأحزاب الإسلامية الموالية لإيران.
تثير تلك التحديات التي تواجه العراق تساؤلات حول ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة لضمان عودة العراق للمسار الديمقراطي الصحيح الذي كان مخطط له في الأصل. وقد تم اتخاذ العديد من الإجراءات المتعلقة بالتواجد الأمريكي المستمر في العراق، خاصة بعد التصويت غير الملزم الذي قام به البرلمان العراقي لإنهاء الوجود الأمريكي في العراق. وفى هذا الصدد، لعبت الولايات المتحدة دوراً عميقاً في تشكيل النظام السياسي الحالي للعراق، حيث سعت لتغير النظام الدكتاتوري وتشكيل نظام ديمقراطي، لكن محاولاتها لتحقيق ذلك قد باءت بالفشل، لذلك، يجب أن تعمل الولايات المتحدة على تصحيح تلك الإخفاقات.
وحتى يتسنى للولايات المتحدة القيام بدورها في العراق على أكمل وجه، يجب عليها أن تدرك أنها تتشارك قضية واحدة وأهداف مشتركة مع المحتجين العراقيين، وفي مقدمتها تحجيم النفوذ الإيراني في العراق. وكما ذكرنا أعلاه، تشكل القوات العسكرية المدعومة من قبل إيران أحد أكبر التهديدات التي تواجه حركة الاحتجاجات، ولذا يتعين على الولايات المتحدة العمل على تأمين شراكتها مع القوات العراقية الوطنية. وفى الوقت الذي تسعى فيه إيران إلى طرد القوات الأمريكية بشكل كامل من العراق من خلال وكلائها، يجب على الولايات المتحدة ألا تنحني لتلك الضغوط التي تبدو وكأنها ضغوط عراقية إلا أنها في حقيقة الأمر محاولات إيرانية لتأمين هيمنتها على دولة مستقلة مثل العراق. وفى هذا الصدد يجب أن تدرك واشنطن أن القضاء على النفوذ الإيراني وإضعاف وكلائها في المنطقة لن يتأتى إذا ما نجحت إيران في بسط سيطرتها على العراق واتخاذه قاعدة لزعزعة الاستقرار في المنطقة.
- الدكتور هيثم نعمان، كاتب وباحث عراقي مقيم في الولايات المتحدة
عن معهد واشنطن