هدى الهرمي
حين فرغت من التجوال في معرض لرسومات العديد من المستشرقين القدامى امثال رينيه و سارشيو و نركيز.
عرّجت مرة اخرى على لوحة استحوذت على اهتمامي للرّسام الفرنسي جيروم. كانت الأروع في اختيار الالوان فضلا عن دقّة التصوير للشخوص و الحركات و عدم اغفال جانب الضوء. انها لوحة «بائع السجاد بالقاهرة.»
المكان يحفل بالهمسات مع نتف من اللحظات المُغلّفة بألغاز غامضة،و أسرار تحوم بين الزائرين و تُبلور عالم من الاستقصاء الفني، و انا الخبيرة باحصاء الدهشة و الانبهار. و ان كان ثمّة شيء ورثته عن جدّي هو شغفه بالأعمال الفنيّة التي تختزل البراعة و الابتكار و اقتناء ما تيّسر من اللوحات التي ترزح تحت وطأة الغرابة و التفرّد بحسب اهواءه.
لقد كنت وريثته الوحيدة في تركة باهظة، لطالما اعتبرتها كنزا ثمينا يزداد بريقه و لمعانه مع مرور الزمن. حتى عائلتي تُشبّهني بتلك العين التّواقة الى الولوج في اللوحات المُعلقة هنا و هناك في مختلف الأمكنة التي تحتويني. فلا أحد ينته اليها غيري. هذا الحدس الفنّي الذي يبدو جليّا مع مرور كل لحظة تذوي و تنزلق في الأشياء العارمة التي يتصاعد نسقها الجمالي في داخل.
جلست في جوف غرفتي بعد يوم مرهق و ممتع، و بدأت اهز كتفيّ استهجانا بنحو أنيق « هل يتعيّن عليّ ان اقوم بشيء ما ؟» قلت في نفسي و انا اقطّب جبيني.
ادركت ما كنت ابحث عنه في هذا المشوار الاستثنائي، كمن تجذبه رائحة معيّنة او شيء بعينه رابض في اطار على حائط ما، و لكنه لا يظهر للعيان . قطع شرودي صوت والدتي المدوّي و هي تفتح الباب لترى التعبير البادي على وجهي و تتوقف، ثم تسألني « انت بخير !»
تنهدت و بعدها اجبت «نعم ..انا بخير امي «
. انني اعدّ العشاء …اذا أردت ان تأكلي تعال» تنبري قائلة ثم تدير وجهها و تنصرف سريعا الى المطبخ
نهضت من مكاني لكنني لم اكن اشعر بالجوع . هرعت الى مستودع صغير في منزلنا مُخصصّ لأغراض غير مستعملة و مثخنة بأثقال الزمن و صروف الأيام. كنت كمن يستجيب الى نداء ما، يتشّهى سبر أغواره بين الأشياء المركونة بهذه الطريقة من عدم الاهمية و الازدراء.
في الحقيقة عليّ البحث عن لوحة قديمة اقتناها جدّي. ربما كنت متفائلة بإفراط في ما يتعلق بهذا الامر. اذكر ان امي فزعت منها و نفرت حين رأتها معلقة في الصالون و طلبت من ابي ان يرمي بها بعيدا، و درءا لأي جدال عقيم بينهما نفذّ طلبها دون تردّد.
اندفعت أبحث و ازيح كومة الألعاب و الأدوات القديمة. أريكة بالية و مقعد مُحطم، فردة حذاء ذو كعب عالي و قفاز مبتور الأصابع .كان جوّ المستودع مُعتّما و مخيفا. النافذة مُسمّرة لا ينفذ منها ضوء او هواء. لكن الشيء المهمّ انني كنت مشطورة بين الجزع و الشجاعة في محاولة مستميتة لإيجاد اللوحة. استندت الى الحائط فاصطدم رأسي برّف طويل و شعرت برغبة في الخروج و الهرب.
سقطت نظارتي فوق خزانة قديمة ذات ادراج، اذكر انها كانت بحوزة جدّي. رفعت النظارة و لمحت فيها تقوّسا طفيفا. فشعرت بالغيظ و حاولت ان اهدىء نفسي. فجأة رسخ في ذهني شيء واضح و قوي « اللوحة هنا».
اطلقت قهقهة جوفاء و انا أسحبها من قعر الدرج الاخير بأصابع مرتعشة كانني أنبثق في تفاصيلها المضطجعة طوال سنين عجاف.
لا يُصدّق ما وجدته فعلا. لقد سطع منها بريق حررّني من الشرود في لحظة فارقة، لاتأمل هذه الملامح الغامضة المعجونة بالالوان و الملتصقة بالحكايات. كانها اشباح عالقة تستحوذ على الركن الذي يُصدّرها في شكل تجريدي لتخرج من معطف الشخوص و تحرك الساكن في بطون اللوحة.
اكاد اجزم انها لم تكن طارئة. انها تشير الى علاقة بالأحداث التي حظيت بها.
حتما لقد تناوبت على خلقها ريشة مبللّة بألوان زيتية حنطتها هنا. ما يجعلها محتدمة، رغم انها بريئة لكنها سجينة بين نتوءات الماضي السحيق. وددت اللحظة ان اتخلّص من خوفي و انا احدق اكثر باللوحة كأنها شيء حيويّ و مهم بالنسبة لي. عمدت الى اخفائها بغطاء مخدة وجدته جانبا. و هممت باخذها معي الى الغرفة بعد ان اشبعت فضولي و دُهشت. يبدو كما لو أن علاقتي بها قد أزيحت بضع درجات.
و انا اتسلل الى غرفتي متوخية الحذر من ان تلمحني امي. اصطدمت بمكتبي و سقطت اللوحة من يدي. صرت مكوّمة على الارضية حتى اخفيها على مدى لحظة خلتها طويلة الأمد
غير انني تفطنت الى ان اللوحة صارت متشققة و بلا ألوان.
اخذت نفسا عميقا و انا امام اللوحة ذاتها بعد مرور سنتين على الحادثة. كنت داخل صالة عرض للرسم التشكيلي في متحف اللوفر بباريس. انها لوحة « المظلات» لبيير اوغست رينوار «انا متأكدة ! هي نفس اللوحة « كنت اتكلم ببطء كما لو كنت اتكلم مع شخص ما. أسعى ان افهم كيف وصلت اللوحة الى هنا بعد ان فقدتها حتى صرت اخاطبها قائلة:
. لقد كنت تسعين الى هذا. مهما يكن من أمر…مكانك هنا»»
- شاعرة وقاصّة تونسية