علي حسن الفواز
العمل على تكريس صيرورة المواطن الثقافي تفترض وجود السياق الثقافي الوطني الذي يبرر علاقة هذا المواطن بالصناعة الثقافية الثقيلة، ويبرر حصانتها ازاء خروقات وانتهاكات قد تحدث من قوى مازالت تتحسس من الثقافة على طريقة غوبلز، ومازالت لا تؤمن ايضا بضرورة التنوع الثقافي، فضلا عن دور مثل هذه الفعاليات في تأصيل قيم التبادل الثقافي والعمل بنوع من الشروعية على اشاعة فكرة المواطنة وتوصيفاتها القانونية والاخلاقية، فضلا عن امكانية ايجاد القاعدة الانسانية والتشريعية التي تعزز وجود فكرة المواطنة الثقافية، وقيم التعايش ولذائذ الحرية والسلم الاهلي وقيم الحق بالمعيش والرأي والفكر والاعتراض..
هذه المعطيات تمثل مصدرا صيانيا لمواجهة الخرق الثقافي وللتعاطي بعلمية وقانونية مع تحديات مظاهر التلوث والارهاب الثقافيين، مثلما هي فرصة لتأمين الأهليات للدعوة الدولية-قانونا وعرفا-الى اعتبار الارهاب الثقافي واحدا من أخطر الارهابات المصنفة عالميا، ومن أكثر تحديات صياغة العقود الثقافية.
ان وقائع الحياة العراقية وتاريخ ازماتها تكشف لنا عن وقائع واقعة! وأخرى مؤجلة، والتي يمكن ان تشكل ارضية صالحة للكشف عن ذاكرة حروب الفقهيات والايديولوجيات الصاعدة، والتي ظلت على الدوام مصدرا لتهديد حرية الشعر ونقد الفلسفة ومباهج السرديات العميقة، اذ إن الحروب والصراعات خرجت من معطف الاوهام الكبرى، والمهيمنات الكبرى، والتي تتبنّى مجاهرة فاضحة بالعنف الثقافي، واشهارا بالإفصاح عن بطولات لا رائحة للثقافة في جواريرها، ولا دور للمثقفين النقديين والعضويين فيها، وكأن اصحاب الاتحادات والمؤسسات وما يسمى برعية المجتمع المدني الثقافي في عطلتهم الاجبارية(الممنوحة من الحكومات وقوى الارهاب العالمي) سيكونون الاقرب الى ممارسة النوم العلني قرب نعاس الفكرة والمعنى والعزوف عن القياس وفقه الافكار والايديولوجيات والجسد والانوثة. كما ان دخول الشعر العربي باعتباره ديوان المواطنة القديم، منطقة الاتصال والتفاعل والشراكة مع العالم، سيُعرّضه الى الكثير من المواجهات الفاجعة التي تكشف للأسف عن الكثير من مظاهر الرداءة، وربما الاندفاع نحو صناعة ثنائيات اخرى للرعب الثقافي، وتشوه ملامح الاداء الثقافي لمؤسساتنا الثقافية وعدم قدرة هذه المؤسسات(الحكومية والمدنية وحتى الاكاديمية ) على ان تضع هذا الديوان بمستوى ديوان برامجنا الرياضية وديوان عروض الازياء، وان تصنع من الفعل الثقافي جهازا للضغط على الجهات المسؤولة عن انتاج بضائع التخلف، وان تذهب بعيدا باتجاه ان تشرعن لها رأيا عاما يدعم توجهاتها في الدفاع عن حقوق المواطن المثقف والمواطن المنتج للثقافات الجميلة، وان يدعو الى غلق الاسواق والدكاكين والارصفة التي تعرض ثقافات الجيب المثقوب والسعي الجاد والمبرمج الى ايجاد مجالات لتوسيع ثقافات التفاعل والبحث العلمي في كل المعارف بما فيها العلوم الانسانية/الثقافية وتحويلها الى مراكز تؤمن لنا قواعد المعلومات والبيانات ..
إنّ هذه التوجهات ستضعنا في صلب المواجهة، وسترسم لنا افقا مفتوحا، وستجعلنا نواجه حرب الثقافات، وربما تحديات الثقافات الرقمية والمعلوماتية بقدرات مهنية وانسانية وجمالية ومعرفية تقلل من نسبة الخسارات التي قد تأتي. هذا ما يجعل التكاسل عن مواجهة ظاهرة التكدس الثقافوي ذي الترهلات والثنائيات المرعبة بمثابة الاصرار على تكريس الجهل العمومي والذوق الفاقد لنوعه وملامحه وهويته وابطاء دخول المواطن الثقافي الى القرن الواحد والعشرين، وربما تكريس كل انماط الشعراء والمثقفين الباشوات، والشعراء الموظفين، وشعراء الفرجة والسيرك، فضلا عن تكريس الاتجاهات الظلامية التي وجدت في التاريخ المفتوح وغير الخاضع للفحص مجالا لاستئناف فكرة الحرب العمومية ضد كل شيء، ضد التنوير والفن والجمال والجسد والموسيقى والحرية والانسان.
انها محاولة للذهاب بعيدا نحو المستقبل، نحو الحياة التي تحترم المواطنة الثقافية، القابلة للمعيش والاطمئنان والانصات الى اصوات عوالمها وهي تحضر بيننا خالية من الضجيج والاكراهات والتلوث، لا تمنحنا الّا مسافة للتأمل وربما سنوات اضافية بعيدا عن ظاهرة الموت العجول والفقر العجول الذي اكل نصف اعمار الجسد الثقافي…