محمد حاذور
لا أعرف سر المدن الكبيرة بكثرة مجانينها ومشرديها، السؤال والمشهد لا يفارقان تفكيري وقلقي، نعم قلقي، من سكون المدن الكبيرة والقديمة. فالبصرة، «العشار» تحديداً، أجدها مركزاً للغرابة، بينما واقعها، مركز للتجارة. العشار تلك البقعة المليئة بالمشردين والمخبولين-وأنا أراهم أعقل الناس وأكثرهم صراحةً- وهذا التشرد هو احتجاج أبيض وصريح على زيف التمدن والمواطنة والتعايش، احتجاج بالعمر والجسد، فالأزقة وأرصفتها، أسِرّةٌ للأنبياء المنبوذين.
طيلة فترة عملي في العشار، عرفت أغلب وجوههم وأماكن نومهم، ومنهم من يُكنّي نفسه، «أبو ضحكة الحلوة»، هذا الضّحّاك، بيّاع الجرائد، يمشي في أزقّة العشار ويجلس بمقاهيها وهو يضحك بشكل هيستيري، حتى صار المقهى وقتها يضجّ بالضحك من كل الجالسين، وسألته حتى قال، «الناس تحب ضحكتي وجاي أضحّكها» يضحك بكل ما لديه من بؤس وضياع، يضحك حتى وصل الأمر بمالك المقهى، إلى طرده، لكنه بقي ضاحكاً متهكماً، على الوجود برمته.
شخصية «آرثر» في فيلم «الجوكر» هو نفسه أبو ضحكة الحلوة، لكن دورهما ومكانهما في الحياة مختلفان نسبياً. آرثر وعمله الهزلي لأجل أمه، وربما أبو ضحكة الحلوة برقبته عائلة، كلاهما يتعرضان للسخرية والشتائم والتعنيف، وكلاهما مستمران بالضحك.
«آرثر واقعي تماما»
شخصية آرثر هو الصورة القريبة جداً من النفس البشرية المسجونة بالعادات والتقاليد والأعراف والمعايير وحتى الأخلاق. فالإنسان سؤال وحاجة ورغبة وشهوة وعناد وتمرد وعبثية بامتياز، قلنا أم أخفينا، نتمنى الموت أو القتل لمن لا نرغب بوجودهم أياً كانوا ومهما كانت صورتهم وتأثيرها علينا في الحياة، والشهوة أيضا والتملك والسطوة، لكن في الحياة، تتفاوت أوزان الأخلاق والمعايير. والأخيران بوزنيهما، يحددان سقف النفس البشرية وهواها ورغباتها، فآرثر كان يقابل من يعنفه ويسخر منه، بالضحك فقط، لكن عندما ظهرت صورة الشر-بهيئة صديقه المهرج- بتمرير مسدس صغير، مفاده، الدفاع عن النفس! هنا إنعطافة كبرى، بامتلاكهِ مسدساً، فالضحك هو وسيلة احتجاج ودفاع ولغة خطاب.
صارت الرصاصة تحمي آرثر من المحيط كما كانت تفعل ضحكته.
«البراءة وهم مستمر»
في مجتمعاتنا الصغيرة ولنأخذ مثال علاقة الريف بالمدينة، وأنا من طفولتي دخلت السوق مع أبي وجدي بمختلف تجارتيهما، فكان السوق بشتى بضائعه، يعتمد على الريف في نفاد بضاعته. ابن الريف كان يبتاع كل شيء دون الخوف والحذر من رداءة السلعة، سواء كانت غذائية أو أثاث أو ملابس. تقف البراءة على تخوم المدينة، ما إن دخلت، حتى تعلم الإنسان الحيلة والدهاء والانتهازية والمناورة والغش والحقد والضغينة والفتنة والفساد.
أنت وأنا لا نعرف الحياة الشقية التي عاشها آرثر، فعمره والصورة التي ظهر بها، هي نفسها تتواجد عندما نشاهد المشردين والمجانين، بتجوالهم المزمن.
أحسب أن المجنون والمشرد هما الصورة الطبيعية للإنسان، فهناك من يحتال ولا يكترث ويتغافل عن المواقف الإنسانية الكبرى، لكن المجنون لا يفعل ذلك. الجنون هو ردة الفعل الطبيعية لما يحدث للنفس من مآسٍ فوق طاقتها.
لذا أجد ان البراءة وهم وزيف وخدعة، أن تبقى بريئاً، أن تبقى خارج المدينة، أو تقف موقف المشاهد على التجربة الإنسانية، بدءاً من التعليم والعمل والحب والفشل والسقوط، الحرمان والخوف والتملك والخيبة، العيش مثل باق البشر. ما يعني أن تعيش حياتك مثلما تفعل الأنهار والأشجار.
«الجوكر والثورة»
الساحة العراقية وما تشهده من صراعٍ، ما هو إلا صراع النفس ومتطلباتها في الحياة، نحن تناسلنا الخراب بكل أشكاله وأصنافه بجميع مفاصل الحياة، فبداخلنا ضحكة آرثر، وعلى جسدنا الركلات التي تلقاها، وبعقولنا، أكثر من مرضه القاسي، وقناعه، هو الكذب على أنفسنا بأننا لا زلنا نعيش أو نحاول العيش، وحتى مسدسه، فبداخلنا مات الكثير وبودنا أن نقتل، ومفهوم الثأر التي تتبناه المدينة، هو ردة فعل حيوانية بامتياز.
«داخل الفيلم»
تبدأ التلميحات، بالنفايات التي أصبحت من المشاهد المألوفة، بالجرذان وتواجدها ونوعيتها، وتلكما الإشاراتان كافيتان لفساد السلطة برمتها، بمشهد آرثر وهو يُلوح بيافطةٍ لمتجر موسيقى، يعلن عن إغلاقهِ، وهذه ونتيجتها، تأثيرها أكبر من النفايات والجرذان، فالشعوب التي لا تتعاطى الموسيقى، مصيرها، يشبه الراهن العراقي ومستوى تعاطيه مع الفنون بشكل عام.
عموما مادة الفيلم فيها الكثير من الإشارات والتلميحات لمن له ثقافة بصرية تلتقط وتحلل وتربـط وتستنتج.
- الفيلم يستحق المشاهدة، لكنه لا يستحق الضجة التي أحاطت به.
- عن موقع جدلية