ما كشفته التظاهرات الحالية، أكبر من أن تختزل بالسياسة والسياسيين، فإلى جانب ما خلفته من أزمة سياسية، كشفت عن أزمة ثقافية، كانت مخبأة تحت عباءة الوطنية والتحرر من قيود الانتماءات الدينية والمناطقية. كشفت عن مرض مزمن، يحاول كثير من المثقفين، إخفاءه عبر كتابات ونصوص تدعو الى المساواة والتعددية السياسية والثقافية والدينية. وكلما تأزم الوضع السياسي، يسقط مثقف في وحل الطائفية والحنين الى الجذور الأولى. ربما إن الدفاع عن فكرة ما، ليست جريمة بحد ذاتها، لكن الدفاع المقرون بهجوم معاكس، ضد الكل، لمصلحة الجزء، هو الجريمة. وإلا، كيف لمثقف كتب الكثير من النصوص والمقالات ويدعو ليل نهار، لإذابة المكونات في حوض الوطن، وإخضاع الفرع للأصل، أن يكتب أن ما يحدث هو استهداف لطائفته، وليس مجرد انتفاضة شعبية، قام بها محتجون وناقمون على الوضع العام للبلد. الأزمة الحالية، كشفت عن قدم قدرة بعض المثقفين العراقيين على قطع الجذر الطائفي القابع بدواخلهم، والانطلاق نحو الفضاء الوطني الكبير.. الفضاء الذي يتسع للجميع، ويسعى له الجميع في كتاباتهم نصوصهم. لكن يبدو أن المثقف لا يمكنه يتخلى عن امراضه التي غالبا ما يعطي هو نفسه وصفات جاهزة للتخلص منها. المثقف، يتحمل اليوم، مسؤولية كبيرة في إبراز الوجه الحقيقي للمثقف الذي يسعى بكل صدق وأمانة لمكافحة الأمراض التي يعاني منها المجتمع، فهو المالك الشرعي والوحيد للدواء الذي مازال ينخر جسد المجتمع ألا وهو الجهل. ولعل الطائفية والعنصرية، أخطر وأشرس مرض كاد أن يفتك بالجسد العراقي بشكل نهائي. المثقف يمتلك الدواء، وهو المعرفة التي تمكنه من بث الوعي بين الناس، بغية تجاوز وتخطي تلك الأمراض. لكن مع تراجع دور المثقف لصالح أشخاص لا يملكون شيئا من المعرفة سوى أنهم بارعون في التكنلوجيا والقدرة على التلاعب بمشاعر الناس خصوصا البسطاء، وهذا ما أهلهم لقيادة الرأي العام، والتوجيه المستمر لذلك الوعي، عبر خلق مناخات لذلك التوجيه والتقييم، من دون أن يبنوا مجدهم ذاك على أسس سليمة، مثلما كان المثقف. والنتيجة أن المثقف، تخلى عن دوره ومسؤوليته لصالح تلك الفئة، من دون أن يحتج أن يسعى لاستعادة ما خسر، ليتحول بالنهاية الى مجرد مشارك ومساهم في الاحتجاج، حاله حال أي فرد آخر. ومن بقي في موقعه، يسعى لاستغلال ذلك الموقع في الانتصار لجذوره التي يعتقد أنها مهددة بالقلع، في حين إن الباقي مهدد هو الآخر بالإقصاء، ولا أحد مهتم، لا المثقف ولا غيره. إن الوجه الآخر للمثقف، هو الانتصار لطائفيته على حساب الوطن، والانهزام التام أمام الآخر المتمثل بأبطال السوشل ميديا، الذين أخذوا مكان المثقف ودوره في تحريك الجماهير، وقيادتها نحو ساحل الوعي والادراك التام والعلم بما يحدث. إن هذا الكلام، ليس اعماما ولا ينطبق على الجميع، فثمة مثقفون حقيقيون، يسهمون لحد اللحظة في خلق أجواء معرفية سليمة، في سبيل إشاعة الوعي بين الناس، وصولا الى الحقيقة التي يسعى لها الجميع.
سلام مكي