لا يتناطح كبشان على حقيقة ان جنوب العراق وبكل ما يكتنزه من ثروات بشرية ومادية وقيمية، لم يحظ بجزء ولو قليل من الاهتمام الذي يليق به، باستثناء الأعوام القليلة من عمر “الجمهورية الاولى” والتي تم اغتيالها (1958-1963) والتنكيل بخيرة ما انجبه العراق من زعامات وملاكات سياسية وعلمية وثقافية بيد عصابات من حثالة المجتمع. بعد زوال حكم تلك العصابات عبر المشرط الخارجي، تلقف مقاليد أمور هذا الوطن المنكوب كتل وجماعات غالبيتها رفعت راية مظلومية الجنوب وأهله، وعبر دغدغدة تلك العواطف والآمال وتقديم الوعود بتعويض سكان الجنوب عما لحق بهم من ظلم وحيف في الحقب الغابرة؛ حصدوا ثمار عدة دورات انتخابية، وعبر أكثر من 16 عاماً من المحطات المريرة، أدرك سكان تلك الديار حجم البون الشاسع الذي يفصل مصالحهم وتطلعاتهم العادلة والمشروعة عن غايات تلك الكتل والجماعات، التي لم تعر أدنى اهتمام لحال واحوال أهل تلك الديرة المنكوبة بكل انواع الظلم والتهميش.
ان موجة الاحتجاجات الأخيرة وبكل ما مثلته من قطيعة حادة مع تلك الطبقة السياسية الفاشلة والفاسدة، قد حملت معها ولاسباب تطرقنا اليها في غير القليل من المناسبات، العديد من المظاهر السلبية والثغرات ساعدت المتربصين بها من شتى المتاريس لاختراقها وبالتالي دفعها الى مسارب خطرة ومتنافرة مع ما مثل روحها وسر قوتها (سلميتها) فحرق المؤسسات الحكومية وكل ما يتعلق بالملكيات العامة والخاصة، وفرض الاضراب الاجباري عبر اللافتة الصبيانية “اغلق باسم الشعب” وتحول بعض أحداثها لفصول جديدة من تصفية الحسابات بين الكتل المتنفذة في مناطق الوسط والجنوب، وتعطيل الدراسة في شتى المراحل الدراسية، وقطع الطرق عبر حرق الاطارات ومحاولات غلق الموانئ والمطارات والمؤسسات الحيوية، وغير ذلك من الممارسات والتصرفات البعيدة عن المسؤولية والحكمة؛ الحقت أفدح الأضرار بهذا النشاط الوطني والحضاري. صحيح ان النشاطات الاحتجاجية الاخيرة قد اتسمت بطابع العداء والغضب من الكتل والجماعات و”الاحزاب” المتنفذة، الا انها على أرض الواقع لم تكن بعيدة عن نزاعاتها واجنداتها المشوهة، والتي بمقدورها جرف الاحداث الى ما لا تحمد عقباه.
لقد برهنت الاحداث الاخيرة على ما تعرفنا عليه صيف العام 2014، أي هشاشة “النظام” ومؤسساته السياسية والعسكرية والامنية، وما الاستعانة بقوة القبائل والعشائر للسيطرة على انفلات الامور في مناطق الوسط والجنوب، الا دليل واضح على ذلك. مثل هذه المعطيات تلقي على عاتق الجميع وبنحو خاص سكان تلك المناطق المنكوبة، مسؤولية التعاطي بوعي وحذر مع المخططات والاجندات التي تسعى بمكر ودهاء لاشعال المزيد من الحرائق فيها. انها اليوم تشكل المهمة الاساس لعقلاء وحكماء تلك المناطق، ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان مثل هذا الوعي برز في عدد من الهتافات والهوسات المعبرة، منها على سبيل المثال لا الحصر “شعندك جاي ملثم/ السلمية تريد وجوه” والذي يكتنز معنى وشحنات لا حدود لها من الفراسة والحكمة. فالمخلوقات والاجندات الملثمة تمثل الضد النوعي لتطلعات العراقيين المشروعة، وتاريخ هذا الوطن المستباح من سلالات الملثمين مثقل بالكوارث والأهوال التي الحقتها هذه السلالات بأفضل واجمل ما يكتنزه العراق من قيم وتطلعات وملاكات سياسية وعلمية واجتماعية، وهذا ما حدده بدقة شطرها الذي يقول “السلمية تريد وجوه” أي شخصيات يقترن عندهم القول بالفعل، ولا تحتاج سيرتهم ومواقفهم الفعلية الى لثام كما هو حال سلالات المعطوب والمذعور..
جمال جصاني