البؤساء

محمد زكي ابراهيـم

كانت رواية البؤساء للكاتب الفرنسي الكبير فيكتور هوغو من أعلى الكتب مبيعاً في العراق والبلاد العربية، والأكثر تداولاً بين الطلبة والمعلمين وصغار الموظفين قبل نصف قرن من الزمان. هذه الرواية التي صدرت عام 1862 ترجمت لجميع لغات العالم، ومنها العربية. ولا يعرف عدد ما وزع منها من نسخ لدينا على وجه الدقة، إلا أن عشرات الآلاف يبدو رقماً متواضعاً. أما في البلاد الأخرى فقد شهد عام 1951 طبع المليون الخامس من النسخة الصينية. وإن دل هذا على شئ فإنما يدل على الأهمية الاستثنائية التي انطوى عليها عمل هوغو الروائي هذا.
وفوق ذلك فإن الرواية ماتزال تمثل على مسارح باريس حتى الآن. وقد أضيفت لها مشاهد غنائية راقصة، لتخفيف نبرة الأسى الغالبة عليها. فهي في الأصل ملحمة إنسانية تدين الظواهر الاجتماعية التي أحالت حياة الأفراد إلى جحيم، مثل الجهل والنفاق والتسلط والفقر والظلم والأنانية. وقد حولت كذلك إلى أفلام سينمائية ناجحة، حازت على إقبال واسع من المشاهدين.
غير أن ما أثار استغرابي أن هذه الرواية اختفت تماماً من المكتبات وأكشاك باعة الكتب في العراق. ولم يعد يهتم بها أحد من القراء أو الناشرين. وربما حدث الشئ ذاته في باقي البلاد العربية مع موجة العزوف عن القراءة، إلا أن ما أصابها من إعراض فاق ما أصاب الروايات العالمية الأخرى، التي بدأت تدخل حيز النسيان منذ عقود.
إنني حينما أقارن حال طلبة الثانويات في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، وهم يتهافتون على اقتناء أو استعارة هذه الرواية، وبين حال أبنائهم اليوم الذين لم يقرأوها أو يسمعوا بها على الأقل، أصاب بكثير من الحيرة. فليس هناك ما يبرر هذا العزوف الغريب عن قراءة واحد من أجمل النصوص الروائية في العالم على الإطلاق.
فهل تغيرت أوضاع شباب اليوم لدرجة أن مثل هذه المواضيع الإنسانية لم تعد تستهويهم، أو تلفت انتباههم، وبات البؤس خبراً من أخبار الماضي، بعد الثراء الذي هبط عليهم فجأة؟ أو أن مدلول الكلمة فقد تأثيره في نفوسهم بمرور الوقت؟
إذا صح هذا الاحتمال، وأنا أستبعد ذلك بالطبع، فإن أهمية النص لا تكمن فقط في الفكرة التي تهيمن عليه، بل في قيمتيه التأريخية والفنية. ومن الثابت أن البؤساء تمتلك موقعاً متقدماً بالنسبة للنصوص الروائية الأخرى. هذا النص هو ذاته الذي جعل المجتمع الباريسي، وهو أكثر غنى ورفاهية من مجتمعاتنا العربية، وأشد وعياً واستنارة منها، يستقبل بضعة آلاف من المشاهدين كل يوم لحضور عروض مقتبسة منها. وقد وجد فيها ما يحفزه على إدانة الممارسات الفجة التي تعرض في تلك الأيام، وانقلب فيها على ذاته. ورفض السياسات الحمقاء التي جرت عليه كل هذا الخواء، وأعادته إلى عصور الظلام من جديد، في تلك الحقبة المضطربة من التأريخ.