جرجيس كوليزادة *
بعد اتساع انتفاضة الشباب العراقي، وامتداد احتجاجات العاصمة بغداد الى المحافظات الجنوبية وانطلاق التجمعات السلمية المدنية، وتمركز الانتفاضة في ساحة التحرير وتحت جدارية نصب الحرية، يحمل ابعاد وطنية وانسانية كبيرة لكل العراقيين ولكل الاحرار والمتابعين في انحاء العالم، ولكن تعامل الحكومة بمظاهر العنف مع المتظاهرين بالرغم من ادعائها باتباع اجراءات سليمة لحماية المواطنين المحتجين، رسم بعض علائم العنف على الانتفاضة، بسبب ارتفاع عدد ضحايا الشباب الثائر من الشهداء والمصابين الابرياء، ويبدو ان امتداد الاحتجاجات وتوسعها وفقدان السيطرة عليها بات وشيكا بسبب عدم لجوء الحكومة وعلى رأسها عادل عبدالمهدي الى تلبية مطالب المحتجين، ولجوء السلطة الى قطع وعود كثيرة دون تنفيذ ولا تطبيق، وقد صدرت اجراءات وقرارات عديدة بهذا الشأن، ولكنها مجرد وعود فارغة وبالونات منفوخة لا يلمس الشباب الثائر صداها وآثارها على ارض الواقع.
أسباب الانتفاضة
ويبدو ان السلطة الممثلة بالحكومة والبرلمان والرئاسة، غير مدركة وغير واعية لحد الان بالأسباب الحقيقية الجوهرية للانتفاضة، ولهذا نجد ان تعاملها بعيد عن الصواب والحكمة، وتنحصر الاسباب بما يلي:
(1) فرض مجموعات سياسية ومجاميع ميليشيوية على حكم العراق تتسم باللصوصية الكاملة والمافوية المطلقة دون اي حساب للاعتبارات الوطنية والانسانية، ومجموع ما سرق من قبل هذه العصابات من موارد البلاد بلغ اكثر من الف مليار دولار (تريليون دولار).
(2) عدم حساب اي اعتبار للشعب والمواطنين من قبل المجموعات الحاكمة الفاسدة وعلى مدى عقد ونصف، وكأن البلد ملكية خاصة وضيعة لا صاحب لها الا هذه الزمرة المارقة.
(3) زرع فوارق طبقية عالية اجتماعية ومالية بعلو السماء داخل مكونات المجتمعات العراقية، وخاصة بين أقلية من اهل الحكم وأغلبية من عموم الشعب، وقد ترتب على هذه الفوارق احساس المواطن بضياع الوطن وغياب وسحق المواطنة.
(4) تفريغ الدولة والحكومة من المهام الأساسية والمنظومات الدستورية والقانونية والخدمية والاقتصادية والتنموية وسحق الشعار المدني (الدولة في خدمة الشعب)، وتفريغ المؤسسات من الخطط وبرامج رعااية وتنمية افراد الشعب وفق معايير ومقايس دولية، وتفريغ الحكومة من برامج عملها وخططها السنوية والمستقبلية، وعدم التحوط واخذ الاحتياطات ووضع الاستعدادات للتعامل مع الزيادات السنوية الحاصلة في عدد السكان والخدمات والبطالة والولادات، وعدم التزام السلطة الرسمية باي التزام اخلاقي تجاه تأمين الحاجات الاساسية والرئيسية للمواطنين خاصة من ناحية حقوق العيش والحياة والصحة والتربية والسكن والعمل وغيرها.
(5) الفرض القسري للبطالة على عموم الشباب بجميع اعمارهم ومستوياتهم المهنية، وازالة اغلب الموارد الانتاجية الاقتصادية المحلية الصغيرة، وترك الخريجين دون عمل ودون برنامج حكومي لاستيعاب طاقاتهم العلمية والتنموية واستثمارها في جميع مجالات احتياجات المجتمع والدولة.
ويبدو ومنذ انطلاقة انتفاضة الشباب الشجعان لم يلجأ عادل عبدالمهدي ولا حكومته ولا البرلمان الى دراسة ومعرفة واستيعاب جوهر المطالب التي طرحه المحتجون، ومن المؤسف ولحد الان لم نلحظ اي جدية من السلطة الحاكمة لتنفيذ المطالب والوعود الموعودة بها، ومازالت التصادمات تراوح في مكانها، واجراءات تلبية طلبات المحتجين لم تأخذ مجراها الى حيز التطبيق خاصة فيما تتعلق بتغيير العملية السياسية وضرب الفاسدين واعادة الاموال المنهوبة والبطالة وفرص العمل والخدمات وتحسين الحالة المعيشية.
الأسس السابقة لمعالجة الأزمات
وبالرغم من الدعوات التي اطلقناها في مقالات سابقة من خلال هذا المنبر الحر بصدد تبني برنامج تغيير واصلاح فعال من قبل الحكومات المتعاقبة لمعالجة الازمات الحادة المتعلقة بحياة المواطنين، فان السلطة الحاكمة من الرئاسة والحكومة والبرلمان لم تفعل شيئا ولم تسعى الى فعل شيء محسوس وملموس لمجابهة الازمات الحياتية والمعيشية والخدماتية وتلبية المطالب التي رفعتها جماهير المظاهرات التي جرت في السنوات السباقة، وللتذكير فقد طرحنا اسسا عملية عامة وعاجلة لمعالجة الأزمات أهمها:
(1) تبني الفكر الاقتصادي للدولة على أساس الاشتراكية الديمقراطية وتقنين سياسة السوق الحر وحركة الاموال لصالح المواطنين وليس لصالح الاثرياء،
(2) ترسيخ مبدأ الكسب الشرعي والحلال وابعاد اجهزة الحكومة عن تسويق وتدعيم وممارسة الفساد، وضمان مورد لكسب المواطن بالعمل،
(3) تفعيل وترسيخ الانتماء الوطني وغرس خاصية المواطنة استنادا الى المباديء الاساسية للحرية والحقوق المدنية لضمان الحياة لكل فرد والعيش بكرامة،
(4) تبني برنامج خدمي شامل اعتمادا على برامج ومشاريع خدمية واجتماعية واقتصادية تقوم بها الدولة اعتمادا على مواردها المالية وعلى صناديق ممكن انشائها بافكار مصرفية واستثمارية وبمشاركة سهمية بين المواطن والحكومة لكي تعود المنافع والمكاسب على الطرفين،
(5) وتبني وثيقة ارساء العدالة الاجتماعية مدونة ومستخلصة من الواقع الاجتماعي بموضوعية ورؤية واقعية للاسترشاد بها في تنفيذ الخطط والبرامج التي تقدم عليها الدولة اعتمادا على مبدأ اساسي هو ضمان حقوق العراقيين ورعاية المصالح العليا للشعب، وتبني اجراءات وبرامج لازالة الفروقات الطبقية بين للمستويات الاجتماعية والمعيشية والحياتية المتباينة لمكونات المجتمع والتي ترسخت من خلال العملية السياسية المارقة التي انتجت أقلية ثرية فاحشة وأغلبية فقيرة لا تتوفر لاغلبها مقومات الحياة الاساسية.
الاجراءات الراهنة لمعالجة
مجموعة الازمات
ولكن المشكلة في حل الازمات تكمن في الحكومات الاتحادية التي تعاقبت على كرسي الحكم في بغداد، وهي اغراق نفسها في المحاصصة والطائفية وامتيازات المناصب ونهب الموارد والممتلكات والاموال العامة، وابعاد نفسها عن القيام بمهامها والتعامل مع الازمات التي رافقت حياة المواطنين خاصة من جوانبها المعيشية والخدماتية والاقتصادية والاجتماعية، وهذا ما ساعد على اقامة جدار سميك وغرس هوة شاسعة بين الشعب والحكومة، وفقدان الاخيرة للاحساس بآلام ومعاناة الاغلبية الفقيرة من العراقيين اهم سمة معبرة عن غطرسة وجحود السلطة بجميع مكوناتها السياسية والحزبية والنيابية والحكومية ممثلا برؤسائها وامرائها ووزاراتها ومسؤوليها الفاسدين المارقين.
والمعضلة الحقيقية في الواقع الراهن، ان الحكومة الراهنة برئيسها ومجلس وزرائها لم يحاولا بذل مساع لوقف حجم تمدد الازمات والمشاكل، وبذل جهود جادة للسيطرة عليها، وخاصة الوضع المعيشي والخدماتي للمواطن، وكذلك عدم القيام باي اجراء للوقوف بوجه الفساد الرهيب، فذهبت الحالة من سوء الى أكثر، وفقدت الحكومة حضورها وتحولت الى كائن مسخ يقطع باجساد المواطنين شر قطيعة لادامة الحكم الجائر والنهب والفساد، وهذا ما فجر الاوضاع وادى الى خروج الشباب الى الشوارع مطالبا بحقوقهم الشرعية والدستورية، وهنا اضطر عادل عبدالمهدي الى اطلاق مجموعة من الاجراءات والقرارات والوعود لامتصاص التظاهرات وتلبية مطالب المحتجين، ولكنها جاءت متأخرة، ولهذا فقدت بريقها بسرعة ولم تؤثر على الشباب الثائرين الشجعان، خاصة وانها لم تتضمن معالجات جيدة للتعامل مع البطالة وتوفير فرص العمل، ولم تقدم بأي خطوة للالتزام بتغيير العملية السياسية لرفع وازالة حالة الأزمات المتواصلة التي يعيشها العراقيون، وتثبيت اركان الحكم الرشيد في الدولة العراقية.
خارطة الطريق لانقاذ العراق
ولأهمية المشاركة في تقديم طروحات واقعية وحكيمة وعرضها امام الحكومة وهيئة تنسيق الانتفاضة بغية ايجاد حل متسم بالعقلانية، نعرض خارطة طريق لاخراج وانقاذ العراق من ازماته الحالية، وتلبية مطالب الثائرين والمحتجين، وتصحيح مسار الحكومة والسلطة لصالح الشعب، وازالة الفساد، وتغيير العملية السياسية، ووضع العراق على مسار نهج جديد، والممسارات المقترحة للخارطة كالاتي:
أولاً: الاصلاح الإداري-
(1) اصدار قانون من البرلمان او قرار من الحكومة يتضمن اخراج جميع المسؤولين في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية والعسكرية والامنية، ممن جاوزت خدمتهم اربع سنوات، وابدالهم بآخرين على اساس الكفاءة والنزاهة وسنوات الخبرة.
(2) اخضاع جميع التعيينات في الدولة إلى اجراءات قانونية سليمة بضمنها الاعلان والاختيار والتوزيع على المحافظات بصورة عادلة وشفافة وخضوعها للمراجعة والمساءلة والتدقيق.
(3) الغاء كل أمر تعيين حصل منذ 2003 خلافاً للشروط والآليات المحددة وتحميل الوزير أو رئيس الدائرة مسؤولية ذلك.
(4) إسراع مجلس النواب لاصدار القانون المتضمن تخفيض رواتب الرئاسات الثلاث والدرجات الخاصة والامتيازات الأخرى بنسبة 50%، والغاء القوانين السرية الصادرة من المجلس لزيادة وتثبيت رواتب وامتيازات النواب.
(5) الغاء جميع حالات اضافة سنوات الخدمة بسبب تزوير أغلبيتها، والاعتماد فقط على سنوات الخدمة الفعلية في سلم الوظيفة.
ثانيـًا: إصلاح الخدمات العامة-
(1) توفير الف فرصة عمل بصورة عاجلة لمدة خمس سنوات في كل محافظة بعنوان صيانة شبكات مياه الشرب وتوززيعم على مجموعات حسب حاجة المحلات في كل محافظة.
(2) توفير الف فرصة عمل بصورة عاجلة لمدة خمس سنوات في كل محافظة بعنوان صيانة شبكات الكهرباء وتوززيعم بمجموعات فنية حسب احتياجات المحلات السكنية في كل محافظة.
(3) احالة جميع مشاريع المياه الصالحة للشرب الى التنفيذ المباشر من قبل لجنة على مستوى مديريات كل محافظة وباشراف فني من الوزارة المعنية.
(4) انشاء شركة وطنية لتنفيذ المشاريع الكهربائية برأسمال لا يقل عن ملياري دولار وكوادر فنية لا يقل عددهم عن عشرين الف كاددر، لاحالة جميع مشاريع ومحطات وشبكات الكهرباء اليها بصورة مباشرة في كل المحافظات اعتمادا على الكواددر الفنية العراقية وباشراف خبراء اجانب، وباشراف فني من الوزارة المعننية.
(5) انشاء شركة وطنية لتنفيذ المشاريع البلدية برأسمال لا يقل عن مليار دولار وكوادر فنية لا يقل عددهم عن عشرة الاف كادر، لاحالة جميع المشاريع والبرامج الخدمية البلدية اليها بصورة مباشرة في كل المحافظات اعتمادا على الكواددر الفنية، وباشراف فني من الوزارة المعنية.
(6) وضع خطة تنموية خماسية على صعيد كل محافظات العراق لمعالجة المشاكل والازمات المتعلقة بالمياه والكهرباء والخدمات البلدية، مع مراعاة وتلبية الاحتياجات السنوية المستقبلية للزيادات السكانية.
ثالثـًا: البطالـة:
(1) اصدار قانون تأسيس وتنظيم نظام حكومي لتأمين العمل لكل مواطن في القطاعين الحكومي والاهلي، وفق ضوابط واليات اصولية كالأنظمة المتبعة في الدول الاوربية، مع ضمان تأمين حق الرعاية الاجتماعية عند شغور الاعمال والوظائف.
(2) الاطلاق الفوري لسلف ومنح انشاء المشاريع الانتاجية والخدمية والترفيهية للشباب والخريجين، وذلك من صندوق حكومي خاص بالمشاريع لا يقل رأسماله عن خمس مليار دولار، ومن خلال هذا الصندوق يمكن تأمين مليون فرصة عمل.
(3) الاطلاق الفوري لفرص العمل المقترحة اعلاه في مجال اصلاح الخدمات العامة، والتي تضمن اكثر من ربع مليون فرصة عمل في بغداد والمحافظات، وادامتها بفرص عديدة اخرى كل سنة.
(4) الالزام الفوري لجميع الشركات العاملة في العراق المحلية والاجنبية بتعيين ما لا يقل عن ربع مليون كادر، وخاصة من خريجي الكليات والمعاهد، وتوسيـع شمـول العامليـن كافـة فـي القطـاع الخـاص، والعامليـن لحسابهـم الخـاص، وأصحـاب المهـن والحـرف، بقانـون الضمـان الاجتماعـي، واستيفـاء الاستقطاعـات اللازمـة وفقـًا لنظـام حكومي يضمن كافة الحقوق.
(5) التعديل الفوري لملاكات الوزارات والمؤسسات والددوائر الحكومية لملء الشواغر الحاصلة بفعل التقاعد واسباب اخرى، واجراء التعديل كل سنة لفتح المجال امام تعيينات جديدة.
(6) تفعيـل وتشجيع الاستثمـار الحكومي الاجنبي فـي القطاعـات الاقتصادية والانتاجية العراقية، وازالة المعوقـات التـي تعتـري ذلـك، وتعديـل نظـام الاستثمـار وفقا لضمان حقوق العراقيين.
رابعـًا: الاصلاح السياسي:
(1) الغاء الميليشيات الحزبية وحصر السلاح بيد الدولة.
(2) ضمان حيادية الجيش والاجهزة العسكرية والامنية وتحديد مهماتهم بحماية الدولة والشعب.
(3) تحديد العمل الحزبي باربع سنوات فقط وذلك باصدار قانون ملزم بذلك من البرلمان.
(4) الغاء المحاصصة الغاءا تاما في توزيع كافة الحقائب الوزارية والمناصب الحكومية.
(5) تطوير نظام ادارة المحافظات الى نظام الاقاليم لتلبية الحاجات المدنية والادارية والتنظيمية المواطنين، وذلك لضمان كافة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمواطن.
(6) تعديل قانون الانتخابات وقانون المفوضية المستقلة وتقديم اتخابات مجلس النواب ومجالس المحافظات واجرائها في غضون فترة لا تتجاوز شهر حزيران من سنة الفين وعشرين.
في الختام نأمل الخير والسلام والامان لكل المحتجين من ابناء وينات العراق والمشاركين في التظاهرات الجارية في بغداد والمحافظات، وندعو لهم بتلبية كافة مطاليبهم الشرعية من قبل الحكومة، مع الدعوة الى ضرب كل الفاسدين كبارا وصغارا وازالة بؤرهم واوكارهم من ارض البلاد، وتحقيق التغيير والاصلاح في النظام السياسي الحاكم بالعراق، والله من وراء القصد.
(*) كاتب وباحث سياسي