اسماعيل ابراهيم عبد
ان جدل التفكير الروائي في الأساس يَعْتَدُّ بـ (المتاح والمكبوح) من القول التراثي والمعاصر، اذ الممنوح السـردي معوض عن المكبوت السلوكي عبر الوقائع الحدثية التي تُنمي للممنوح قدرة تحكم نفسية، وللمكبوح قيمة فلسفية، وبهذا يتشكل النوع الأول من الجدل، لنعطيه توصيف (الجدل الحدثي). وبظننا أن هناك عاملين وراء كل نشاط بشري هما، صراع البحث عن المكانة والتنافس للحصول على المتعة، وهما قانونان نفسيان واجتماعيان لعامة البشر وخاصتهم، تلكما العاملان يحيلان الى التاريخ المتعلق بالوعي البشري البدئي المتجه الى البحث عن الفضيلة الافلاطونية بكل صراحتها وصرامتها. وبها ينمو الوعي بالمستوى الثاني من الجدل، لنصفه بجدل (أنوية المكانة) الضمنية للفضيلة. أما المستوى الأهم فهو المتاح والمكبوح (الثقافي) إذ يبدو أن المكبوح والمتاح هما نتاجان عن عقلية إنسانية بعيدة الغور في الوعي، ومن ثم فهما محتويان لجل الهموم الثقافية , من نظريات ودراسات ونقود. لنلاحق ذلك على النحو الآتي:
أ ـ الحدث الجدلي الحدث الجدلي مثلما، مرَّ سابقاً، يحتفي بالممنوح السردي، أي الأحداث المثيرة للأسئلة، وهي سلوك سردي نفسي بمقابل المُغَيَّب الظّني من احتمالات الفكر الفلسفي المضمر لما وراء النص. اننا في هذا أمام سرد تتناصف أرديته ارادتان، الأولى الوقع الفني للوقائع، والثاني فعل توجيهها للعمق الاجتماعي، مما يعني ان الجدل سيتبنى المؤول الفلسفي كونه مغيباً، والسلوك الجمعي كونه حقيقة لها تشعباتها الجذرية. لننظر الآتي: [بسهولة كان باستطاعة أسمر ان يتحول الى شخص آخر .. يتغير كل شيء فيه، نظرته للأشياء، رنة صوته، طريقة السير، وحتى حركة رأسه عندما يتكلم، شيء ما يحدث بداخله .. ان ذلك يحدث ربما بسبب المانوي الذي يسكن بداخله، اما ما يعتقده أسمر عن شكل المانوي فكان يتخيله أحياناً على شكل جني ويتخيله في بعض الأحيان … مضى اسمر بين الربى والأحجار، وكانت تتراءى له صورة ضحيته الارهابي الأخير] ـ بنادق النبي، ص96.
يقوم الوعي الجدلي على استثمار المحفز على تبني المواقف المتباعدة عن بعضها، تلك التي تتعلق بإشكالية الارهاب، من منهما الارهابي، أسمر أم القتيل؟، وكيف تتخذ القوانين الفردية طريقها لإقرار التصفية الجسدية، هكذا؟ … الى آخر مثل هذه الاسئلة المشكلة.
ان من نتائج المقاطع المنصصة التوصل الى:
ـ ان السرد منح حرية الفرد في سن القوانين المحددة للإرهاب.
ـ وان الفعل الروائي تذرع بالفكر الفلسفي لتسويغ القتل الانتقامي تمشياً وراء فكرة الأخذ بالثأر العشائرية.
ـ اما المحتمل المغيب فهو عالمية رعاية الارهاب مادياً، ومحاربته اعلامياً، بطريقة تحمية بصورة غير مباشرة.
ب ـ الوعي النفعي البدئي هو نوع من الوعي، مرتبط بالحاجة والمنفعة بشطريهما المادي والمعنوي، وقد تكون المنافع مبررة، ليس فيها ما يؤذي أو يستغل او يسلب الحق، لننظر: [كان قلب أسمر يتعالى، ربما أقوى من طرقات أسمر الخجلى على الباب، فخرج ابو حسين .. بدا الرجل مرتاباً في البدء، وعندما دخل أسمر وعرفه بنفسه وعن الرحلة التي دخلوا بها الأردن حتى تذكره لكن بالكاد …
ـ لكن كيف عرفت عنوان سكني؟ سأل بارتياب.
ـ لقد رأيتك ولحقت بك الى هذه البناية .. وأنا أبحث عن سكن، لقد … لم أتفق مع صاحب البيت الذي أسكنه، يقول ادفع ايجار البيت كاملاً، أو ابحث عمن يسكن معك. قال ابو حسين: مثل ما يحدث معي، انظر هذه الشقة، فيها غرفة واحدة ويطالبني صاحبها ان ايجاراً بدلاً عن اربعة اشخاص.
قال أسمر: سنتقاسم الايجار بيننا، حتى نجد شخصين آخرين.
صمت الرجل مطرقاً برأسه، فعرف أسمر ما يدور بخلده.
فقال له: لا عليك، سأدفع كل الايجار، ثم تدفع لي بعد ان تجد عملا] ـ بنادق النبي، ص119. يلاحظ ان المنفعة في السكن والايجار تخدم الشخصيين معاً، وهي منفعة ابتدائية كونها بداية تعاهد على أمر مفيد.
ان الممنوح ـ هنا ـ هو عناصر الحدث كلها والمكبوح ـ هنا ـ هو المتوقع الذي ستصل اليه الأحداث القادمة كالإبعاد او السجن او الموت!
د ـ الجدل الثقافي للمتاح والمكبوح
هو جدل قائم بطريقة سافرة العري ـ بالنسبة للمقطع القادم ـ كون الأفكار التي سترد هي مثار اختلاف وتساؤل تاريخي مستمر، يخص الحضارات القديمة والجديدة، اما الاستثنائي في هذا الجدل، فانه يبدأ من عنصر غير انساني، وفي خضم وصف هذا العنصر (البحر الاحمر) ينحرف السرد نحو سبي نبوخذ نصر ليهود فلسطين. لنتدبر للأمر بالتأويل ونتذكر بأن الممنوح والمكبوح هما نصان متجاوران دلالة لا كتابة:
[يبتلع البحر، ويُذوّب لون دمائها في مويجاته فيغدو البحر مريباً ومخيفاً .. إذ يتحول لونه من الرائق الشفاف الى اللون الأزرق … ثم الى اللون الرصاصي الفاتح، حتى يختلط مع لون الحافات الحجرية التي ترسم الافق الهلامي البعيد، فتظهر خيالات ووهم قامات أُناس، تبدو مثل شعيرات ناتئة تظهر لمن يحدق في الافق طويلاً، وتظهر كالوهم أشباح اليهود، ذلك الشعب الذي غزاه «نبوخذ نصر» وسلب أمواله وكل مدخراته، لأن مملكة يهودا لم تدفع لنبوخذ نصر الضريبة، وإنما كانت تدفعها مخفضة للفرعون المصري] ـ بنادق النبي، ص64 , ص65.