بعد ترؤسه لباكورة جلسات البرلمان الذي قذفته الينا أحد أكثر الدورات الانتخابية بؤساً والتباساً واحتراقاً، اختفى “رئيس السن” والممثل اليتيم للتحالف المدني الديمقراطي السيد محمد علي زيني، من دون أن يترك ادنى أثر أو علامة على تلك الغيبة. التحالف الذي أوصل أكبر النواب سناً (على مشارف العقد التاسع) الى مجلس النواب أعلن براءته منه، بعد ان ضرب السيد الزيني عرض الحائط بوعوده لهم ولبرنامجهم الموعود، عندما أعلن عن انضمامه لكتلة سائرون. وفي بيانه حول دقلة الزيني تلك، قال التحالف المدني الديمقراطي بأن “سلوك النائب الزيني لا يختلف عن غيره ممن ركبوا موجة المدنية…”. اذن لم يعد لأكثر من ثلاثين ألف صوت (سبعة آلاف منهم لشخص الزيني) اقترعوا لذلك التحالف أي موقع في مجلس النواب الحالي. عندما نحاول القاء شيئا من الضوء على مثل هذه المصائر والمفارقات والدقلات، سنجدها لا تشذ عما هو سائد في المشهد الراهن، من غرائبية وبهذلة للمعايير والقيم، وبقليل من الاطلاع على ما حل بالقوى السياسية بمختلف واجهاتها وادعاءاتها قبل زوال النظام المباد وبعده، سنجد كل ما نحتاجه لفك طلاسم مثل هذه الدقلات والخيبات.
لقد حذرنا مرارا وتكرارا من الخفة وعدم المسؤولية في استعمال التسميات والمفاهيم المبهمة في العمل السياسي، بوصفه أكثر النشاطات اتصالا بالمصالح الحيوية للشعوب والامم، فمصطلح “المدنية” والذي تحول وبوقت قياسي الى أوسع عباءة فضفاضة في عراق ما بعد “التغيير” مثل البوابة التي سمحت بمرور كل هذا الطفح الهائل من “المدنيين”. نعم المشهد السياسي الحالي غامض وملتبس، وهو بوضعه الراهن يمد المجرمين واللصوص والفاسدين بكل ما يحتاجونه لأجل اعادة تدوير ممثليهم في الدورات الانتخابية المقبلة، حيث ادركنا والمهتمين بالشأن العراقي؛ بان الدورة المقبلة ستجعلنا نترحم على الحالية والتي جعلتنا بدورها نترحم على سابقاتها وهكذا دواليك… الحقيقة التي لا يتناطح عليها كبشان هي؛ العراق لم يتمكن حتى هذه اللحظة من امتلاك لا حزب سياسي بالمعنى الحديث للكلمة وحسب بل لم نشهد علامات على وجود مثل تلك التطلعات، التي يعوزها الكثير من مصادر العافية، والتي انقرضت من تضاريسنا الممتدة من الفاو لزاخو ومنذ زمن بعيد.
ما يجدر بنا الاشارة اليه ونحن نحاول ان نقتفي أثر “وحيد المدنية”؛ هو الدور الضار الذي تلعبه تلك القوى والجماعات والشخصيات والتي لا تكف عن طرح نفسها كممثلة لمثل هذه العناوين الرنانة والمانشيتات المنتفخة (المدنية، الديمقراطية، اليسارية و…) من دون أن تكلف نفسها في التقصي قليلا بمعنى ومغزى ولادة الاحزاب والتنظيمات وعلل اضمحلالها. انهم باصرارهم هذا يعيقون بوعي أو من دون وعي، امكانية تبلور طبيعي لمثل تلك الحاجات والتطلعات المشروعة. والمصيبة انهم لا يعيدون النظر في تجاربهم القريبة وعلل كل هذا العجز والخيبات والتي لن تكون نهاية مطافها دقلة ممثلها الذي اكتشف في الوقت الضائع عن اتصال نسبه بـ “سلالة السادة الأشراف”. ان الاجابات السهلة والجاهزة والتبريرية لمثل هذه النهايات، هي من تقصم ظهر المشاريع التي تتغنى بالديمقراطية والتعددية والحداثة والعدالة والحريات، فكما يقال “الجيوش المهزومة تجيد التعلم” لكن مشكلتنا بهذا الكم الهائل من حطام “الافندية” الذين يتخيلون أنفسهم أعظم من سقراط وعبارته الخالدة (ما أعرفه هو انني لا أعرف)…
جمال جصاني