عبد الكريم حسن مراد
لا شيء يأتي من فراغ ما لم يكن هنالك حدث، والألم يحدث ذلك الفراغ، ولا شيء يدعو لاختيار المنافي والاغتراب القسري ما لم يكن هناك فعل وردّ فعل ولأسباب عدة، مثل إلغاء الآخر جسديا ومعنويا، وطائفيا رفض الآخر، وذاتيا قلع الجذور الثابتة من منبتها، لا لشيء إلا لاختلاف الرؤى أو عدم امتلاك الهوية وأسباب أخلاقية ووعظية، وتكون المرأة ضحية، أي امرأة تعيش في بقاع العالم، فكيف إذا كان ذلك في أرض يعيش هو الآخر اغتراب وغربة ابنائه، وتحت كل تلك المسميات لا شيء يدعو للخلاص سوى المنافي برغم مرارتها، لك هو الملاذ الآمن الذي يجعل الإنسان يعيش دون خوف أو موت أو قتل مفاجئ، والكاتب سعد سعيد رسم لنا من خلال شخوص روايته «صوت خافت جدا» لوحة الوضع القاتمة التي رسمها لنا من خلال بطلة الرواية (سفانة) وهي تترجم مشاعر الوجع والاغتراب والألم، وتسطرها في رسالة إلى الرجل الذي رسم لها طريق الحياة الآمنة بعدما كانت تعيش في فوضى، ومن رسالتها تلك من مدن اغترابها التي تبث فيها رحلة الألم برغم أمان مكانها تبدأ لعبة الحكاية التي أخذت تسردها بكل صدق مع د.فارس الذي وجد فيها الإنسان التي تستحق أن تحقق كل شيء، حكايتها التي راحت تسرد دقائقها بكل صدق، ومن خلال لعبة البوح «المنلوج»،وكذلك من خلال لعبة أحلام اليقظة، مخاطبة الآخر غيابيا، واستحضاره من خلال الحديث لروح هائمة وجسد ميت، هي جسد فضيلة، فالبطلة سردت، وبكل صدق، رحلتها الحياتية مع فارس التي وجدت فيه فارس أحلامها من دون أن يكون لفارس تلك الصورة في مخيلته، فالبطلة تتعرض لمضايقات من قبل أشخاص كانت تعيش معهم مضطرة من أجل لقمة العيش، ومدركة أنهم غير أخلاقيين، لكنها لم تقع في فخ الرذيلة، فقد كانت واعية جدا، مما جعل الآخرين يشوّهون سمعتها، مثل شخصية نمير الذي راح يستدرجها للبوح بقصتها التي آلمته ليتعاطف معها ويفتح لها منفذا آمنا بالعمل معه في عيادته التي من خلالها أخذت اللقاءات تتوالى، برغم أن لقاءاتهما الأولى كانت في شارع المتنبي، وخلال مجموعتها التي تفتت بعدما أصبحت تلازم د.فارس…
لقد رسم لنا سعد سعيد معالم من حياة البطلة التي راحت تتغير نحو الأحسن، فالحلم كان هو مصدر أملها، ومن خلاله كانت تعيش لحظات جميلة، تغرق في رحلته حد الجنون، فوجود فارس في حياتها غيّر أشياء كثيرة فيها، وأصبحت أكثر تفهما للواقع، رافضة كل مغريات الحياة، فوضعها العائلي غير مستقر، فالأب سكير، والأخوة لا همّ لهم سوى العيش عالة عليها، فأصبحت هي المعيلة لهم، وكانت لشقيقاتها كالأم الحنينة برغم وجود أمها التي كانت لاحول لها، فكانت هي الأم بالنسبة لسلوى شقيقتها الطالبة الجامعية التي تعيش حياة غير مستقرة، وقد اكتشفت ذلك بالصدفة من قبل البطلة «سفانة»، والتي تيقنت أن مصيبة قد وقعت لأختها، لأنها وجدت في دولابها (حاجيات داخلية) خاصة بالمرأة وغالية، فراحت تعيش صراع ذلك وصراع حبها لفارس الذي لم يكن يفكر يوما بالحب من امرأة، لأسباب سآتي على ذكرها لاحقا، فلعبة الألم والبكاء رافضة سفانة مرة أخرى لتعيش حالة عزلة لبعض الوقت، والانقطاع عن الذهاب لعيادة فارس الذي أقلقه ذلك، وتستمر البطلة في العيش بلعبة البوح واستحضار الآخر (فارس)، ومن خلال بوحها لفضيلة الفتاة التي قتلت من قبل أخوتها لا لشيء إلا لأنها أحبّت بصدق فطهارتها قد شكّ بها الآخرون ليدركوا بأنهم قتلوا الضحية لمجرد الشك، كل تلك الظروف التي أحيطت بالبطلة رشحت لديها يقينا بأن د.فارس يحبها، ولكن الحقيقة غير ذلك، فلقد واجهته بمشاعرها الصادقة نحوه ففوجئت بالرفض لأنه أساسا غير محب لأيّ امرأة، حتى وهي تعرض نفسها عليه ليمارس معها الجنس يرفض ذلك، لأنه لا يشتهي النساء، ذلك الرفض أحبط تواصل البطلة، لتقرر الرحيل نحو المنافي وبمساعدة د.فارس خلاصا لما قد تقع فيه أختها سلوى بعدما اكتشفت خطأها، فلم يكن أمامها سوى الهجرة، وهو حلها الوحيد، فترحل وهي تعيش حزن حلمها الموهوم في حب د.فارس، وحزن أختها سلوى التي لم يوضح لنا الكاتب سبب تلك الهجرة المفاجئة، فالكاتب سعد سعيد قد أجاد في رصد كل الحالات التي كانت تحرك صخب دائرة الحدث، واستطاع أن يرسم معالم الشخصيات الأخرى.. نوازعهم.. أحلامهم.. سقوطهم الأخلاقي كما في شخصية نمير وعماد وآخرين، لتنتهي الرواية بنهاية مفتوحة برغم أن البداية هي فحوى الرسالة التي أُرسِلت إليه من المنفى من قبل سفانة.
يقينا أن سبب رفض علاقته بسفانة لم يكن للأسباب التي ذكرها، لربما هناك أشياء أخرى هو رآها لكنه لم يبح بها، فالبطلة اعترفت له بكل شيء، لكنها لم تقع في فخ السقوط الجسدي لأنها كانت تحاول أن تكون أكثر شيء في حياة د.فارس الذي بقي رفضه مبهما، لقد وفّق الكاتب في الكتابة على لسان الأنثى، وهذه من إبداعاته التي تجدها في روايته «هسيس اليمام» أيضا.
ولي على الرواية بعض الملاحظات، منها:
1 – لعبة الفضاءات عند الكاتب كانت محصورة بين شارع المتنبي والعيادة.
2 – كثرة استخدام اللهجة الدارجة بالنسبة للبطلة، ومن خلال لعبة التداعيات والحلم يوازيها لغة السرد باللغة الفصحى الذي كان الأجدر به أن يعتمد على اللغة الفصحى للبطلة لما تمتلكه من قابلية الكتابة عبر صفحات دفترها اليومي.
عموما فالكاتب سعد سعيد في روايته «صوت خافت جدا» رسم لنا مدى معاناة المرأة في المجتمع الشرقي الذي تهيمن عليه الذكورية المتسلطة.
لقد كان الكاتب هو النصير لهذه الفئة التي تُفهَم من قبل الآخرين على أنها مجرد وعاء لتفريغ كما يقول جورج طرابيشي في كتابه «الذكورة والأنوثة. وشرق غرب»، حقا أن صوت لحب أتى خافتا جدا لصدقه دون تزييف، فالنعيق من قبل أي كائن يبين مدى زيفه، فالحب يمارس بعقلانية، ولكن أين نجد ذلك الحب في مجتمع تابوي متعجرف.
رواية «صوت خافت جدا» جاءت بلغة سردية هادئة جدا وعقلانية دون تزيف في الحدث والصراع، تجبر القارئ على المراوغة في عدم إنهائها لمصداقية أحداثها ولقاء شخوصها.
وأخيرا يقول هنري جيمس عن فن الرواية بأنها الالتزام الوحيد الذي يجب أن ترتبط به الرواية سلفا دون أن تجلب لنفسها تهمة التعسف..
وهذه الرواية ممتعة بحق.