لا يحتاج المراقب الى تعمق شديد لاستخلاص ان قطاع النفط مقبل على الكثير من المفاجآت في المنظور العالمي. ولعل أهم واخطر تلك الاستخلاصات يكمن في ان العامل الاقتصادي والسوقي لن يلعب الدور الاهم في تلك المفاجآت، بعد ان اخذ العامل السياسي يطغى وللمرة الاولى وبحدة على الاقتصاد.
وتتعرض منظمة «اوبك» الى ضربات قاتلة بفعل طغيان السياسات الدولية على العوامل الإقتصادية ولا سيما بسبب ادارة ترامب الراهنة التي تستجيب لحملته في ما بات يعرف بتجويع ايران بسبب العقوبات الإقتصادية اولاً ومحاولة تصفير الإنتاج الإيراني الى اقصى درجة ممكنة. ومعلوم ان اجراءات ادارة ترامب لا تقتصر على ايران وحدها بل تتجاوزها الى الدول المرتبطة اقتصادياً وتسويقياً بعقود مع ايران.
سلسلة تهديدات
وتبدأ سلسلة التهديدات الخطرة في حصر اوراق النفط الإيراني المصدر بيد واشنطن تحديدًا. ومن الجلي ان ليس هناك معارضة جدية لسياسات ترامب، كما ان من الصعب على الدول سواء منها الهامشية او الرئيسة ان تجنح الى معارضتها. ومثلما يتسيد العامل السياسي على السوقي لا توجد بين يدي الدول المعارضة سوى الرد السياسي بما يتضمنه من احتمالات للتصعيد والتباين، كما تبدو فرص البدائل المعارضة خطرة وملتهبة على المستوى العالمي فنرى تعارضاً صينيا وتركيا وعراقياً بالأحرى لن يستوي الا بتدوير سياسات واشنطن التي تضغط بكل ما اوتيت من قوة على الشركاء العالميين للامتثال لواشنطن والتماهي معها في سبيل تجويع ايران.
ومن البديهي ان نعرج على مصالح الدول المنتجة للنفط خارج اوبك ومنها روسيا والولايات المتحدة في تعمق ازمة المنظمة الدولية « اوبك» التي تعد الشريك العالمي الاول في سوق انتاج النفط ورسم سياساته، كما ان المصالح الخاصة بدول بعينها كالعربية السعودية في اغراق «اوبك «بمعضلات ليس بوسعها وحدها او بالشراكة مع بقية المنتجين.
والشكوى الرئيسة لدولة مثل روسيا وهي منتج كبير للنفط، هي في عدم قدرتها على التعاطي مع حصتها من انتاج النفط، وهي حصة التزمت بها روسيا بالتراضي مع دول اوبك والتي هدفت الى تنظيم انتاج الدول المصدرة بما يتناسب وعافية السوق المتفق عليها. لذلك اعلنت روسيا انها ربما لن تتمكن من الإستمرار في تراضيها الإنتاجي حتى نهاية العام الحالي، مما يضع اوبك والسوق العالمي الى تقلبات غير مستحبة ولكنها تقلبات تسمح لروسيا برعاية مصالحها الخاصة.
عواقب وخيمة
ويتذكر القارئ الكريم ان الانحدار الخطير في اسعار النفط حصلت بسبب تلاعب واشنطن بالسوق من خلال زيادة انتاجها من النفط الاحفوري، وهو انحدار افضى الى خفض الأسعار لتصل الى 30 دولاراً وهو الامر الذي ادى الى زعزعة ميزانيات الدول الاخرى بشكل كبير.
ومن الواضح ان ترامب وادارته لم تعبأ بمصائر دول، ومنها العراق، ولم تهتم بالعواقب الوخيمة التي تتحمل اعباءها تلك الدول التي ترتبط مقدرتها التنموية الوطنية بمستوى اسعار النفط ؛ ويتضمن ملحقنا الذي نضعه بين يدي القارئ الكثير من التفاصيل المهمة عن هذه السياسات. ولكن واشنطن بدلاً من ذلك تعمد الى لعب الاوراق القديمة والسيئة الصيت وفي مقدمتها ايلاء المملكة العربية السعودية لدور حاسم وسلبي يتضمن، ليس الموافقة على المعدل المرتفع للإنتاج السعودي فحسب، بل زيادة عمق هذا الدور خلال ازمتها المفتعلة ضد ايران والموجهة سياسيا بالدرجة الاولى.
ويوما بعد يوم آخر يبرز السؤال الاساسي : هل ستتفكك منظمة « اوبك « ؟ هل سيهجرها اعضاؤها المؤسسون بعد ان اصبح التلاعب بها وتنحيتها عن اتخاذ القرارات الجوهرية لعملها وهي قرارات تنظيم الإنتاج وتوزيع الحصص المتناسبة مع اعضائها وبالتراضي وصولاً الى توازن مقبول عالمياً كما اعتاد العالم ؟ ام نها ستترك مكانتها السابقة لصالح الشركات العالمية لتتحكم بسوق النفط ؟ وربما ستتحول السعودية بسبب حصتها السوقية وقدرتها الانتاجية الى اداة للتحكم بالاسعار ؟. وكانت قطر اول الدول المنسحبة من المنظمة الدولية لأسبابها الخاصة ولكن القيمة السوقية للنفط القطري متدنية ولا تتجاوز 2% من حصة اوبك إذ تعتمد الدوحة صادراتها من الغاز بالدرجة الاولى.
احتمالات.. وتخبط
ويرى المراقبون ان المجالات المستقبلية تنطوي على احتمال ان يسود تخبط بسبب العوامل التي تطرقنا اليها بل تتبدى سحب من السخط اثر التدخلات السافرة للعامل السياسي على معطيات السوق. وفي مقدمات عدم الرضا العام الذي صاحب المنظمة خلال السنتين الماضيتين بروز تهديدات خطيرة على المسرح السياسي ولا سيما بسبب التعارض والتناقض بين سياسات ترامب وسياسات ايران، بل مصالحها الحيوية. وللناظر الى المشهد الاميركي ان يرى تناقضاً بين النزعة اليمينية الانعزالية لإدارة ترامب وسياساته في الداخل الاميركي وبين التوجهات العدوانية للإدارة. ويمكننا تشخيص سياسات ترامب ذات الطابعين الإقتصادي والسياسي المترابط معه في انموذجين في الاقل. وكلا الأنموذجين لهما بعد نفطي عالمي. الانموذج الاول سياساته المتطرفة ضد فنزويلا وما يتفرع عنها من اضعاف وشلل في الدولة اللاتينية المنتجة للنفط. وهي سياسات غير مألوفة ولا تتناسب مع معايير المجتمع الدولي فهي كما بوسع المراقب ان يرى تهدف الى اضعاف الحكومة الفنزويلية من خلال اجراءات عدة في مقدمتها السيطرة على موجودات المصارف من رأسمالها وتطويقها واثارة صخب هائل حول سيادتها سيؤدي في نهاية المطاف الى اضعافها وجعلها اكثر هشاشة ازاء التحديات المتوقعة.
تهديد مصالح
أما الأنموذج الثاني فهو كما نرى يتجلى في سياسة ترامب تجاه ايران. وكيف تتصاعد الاجراءات الاميركية بحقها مما يجعلها غير قادرة على الصمت او التغاضي وغير قادرة على مواجهة اجراءات اقتصادية تحت تهديد جدي لمصالحها. لهذا فعندما نتحدث عن مخطط تجويع ايران فلا بد ان نتوقع ردود افعال لصد هجمة ترامب عليها بما في ذلك تعبيرات طهران عن انها قد لا تجد نفسها قادرة الا اذا قامت بما يرد على التهديد الوجودي لدولتها. واول الردود ما اعلن ان ايران قد تلجأ الى اغلاق مضيق هرمز اذا ما ذهب ترامب بعيداً في حرمانها من بيع نفوطها.
ومن المعروف ان ترامب اعلن عن خطوات تشدد اضافية بهذا الصدد ابتداء من اول الشهر المقبل، منها انهاء الاعفاءات التي قبلت بها واشنطن من العقوبات المنصبة على مستوردي النفط الايراني من دول العالم هي دول اساسية كالصين وتركيا والهند واليابان وكوريا الجنوبية وايطاليا واليونان. تكفي نظرة على طبيعة الدول المعنية بالتهديد الجديد لترامب للقول انها تشمل حلفاء اوروبيين لاميركا ككوريا الجنوبية واليونان وايطاليا ناهيك عن دول عظمى اخرى كالصين واليابان. ان هذه الدول سوف لن تقف مكتوفة الايدي طبعاً ازاء ما يهدد به ترامب، لا سيما ان السوق العالمي وسوق اوبك بالدرجة الاولى لن يتمكن من ترتيب صادراته الى هذه الدول بسرعة، كما ان المملكة العربية السعودية التي سرعان ما اعلنت انها ستعوض نقص الانتاج الايراني تتعرض الى ضغوط اميركية للسيطرة على انتاجها حفاظاً على توازن السوق وتهدئة المخاوف كما يرى المحللون.
وتبرز تصريحات الدول المعنية بالتهديد التي تعد ان التعاون مع ايران انما يتسق مع القانون الدولي في اشارة الى لا قانونية طلب الإدارة الأميركية. وفي حالة العراق ظهرت اشارات الى ان خفض الاستيراد من النفط الايراني وغيره من المشتقات قد يضر شبكة تجهير الكهرباء ويتسبب بنقص يصل الى 4 مليون كيل واط وهو امر لا تستسيغه الحكومة العراقية التي تسعى الى تحسين الشبكة الوطنية.
ووفقاً للمحللين ستشعل الخطوة الاميركية بوقف الإعفاءات اسواق النفط كما ستخلق مشكلات سياسية مع مستوردي النفط الايراني لا سيما الصين والهند. والاستخلاص النهائي هنا ان اوبك ودولها دخلت مرحلة حرجة وحساسة بل انها مصيرية. ونحتاج في العراق الى مراجعة شاملة للسياسات العامة والنفطية في مقدمته حتى نجنب بلدنا الاضرار المتوقعة.