يوسف عبود جويعد
قد يبدو ما تقدمه الروائية نادية الجبوري في روايتها (رهينةُ في العالم السفلي)، هو نوع من أنواع التنوع في التناول السردي، الذي أجده حالة ضرورية، لكي تشهد الساحة الادبية أنماط من السرد يدخل ضمن فن صناعة الرواية، وهي تقودنا الى عالمها السفلي الذي يشهد صراع بين الانس والشياطين والجن، وهو أمر لايمكن إنكاره أو رفضه أو نفيه لأن هذا الثالوث موجود في حياتنا، بل أنه موجود في كل الازمنة والامكنة،كما جاء ذكر ذلك في القرآن الكريم، وليس فوق قول الله قول، وبالرغم من أن حياة الجن، والشياطين هي حالة خارج مرمى البصرة، ومضببة وتصل حد الخيال أو المغالاة لكنها حقيقة لايمكن نكرانها، لذا فإن الروائية في هذا النص تقودنا عبر أحداث سردية لما حدث لها هي دون غيرها عاشتها وخاضت غمار تجاربها في هذا المعترك الرهيب الموحش،بأسلوب ونمط أدب السيرة، كون أن من تقود دفة إدارة الأحداث، هي الشخصية الرئيسية،في هذا النص، وكما ورد في متن هذا النص،إسم الروائية ذاتها،كما عمدت الروائية الى إسلوب وزاوية نظر يفضلها المتلقي وهو يتابع الاحداث،إذ أنها تدعوه ليرافقها خطوة بخطوة ليعيش هذا الصراع معها، وبالرغم من أن هذا النص هو باكورة أعمال الروائية نادية الجبوري وتجربتها الاولى، الا أن قيادتها لمسار السرد، كان موفقاً من حيث اللغة وامكانيتها في نقل مكنونات هذا العالم السفلي.
كما يتضح لنا من خلال المتابعة أنها تجربة شخصية لما تنقله تلك الاحداث من حالات محسوسة وليس متخيلة، وهي تلك التي تنتقل الى إحساس المتلقي دون أي تردد.
كما إننا سوف نجد التنبيه الذي يستهل هذا النص، بمثابة المهيأ والمحفز لخوض تجربة الروائية:
تنبيه !
لا تلمس كتابي هذا إن كنت :
* ستكذِّب ما رأته عيناي كما ترى أنت تلك الكلمات الآن.
* مستهزئاً، لا يؤمن بوجود الجن.
* من أصحاب القلوب الضعيفة.
وهذا التأكيد الذي ضُمن التنبيه يشير الى أن ما سوف نتابع من أحداث قد حدثت في أرض الواقع، ويأتي الإهداء كحالة متممة وخطوة ثانية نحو الدخول في غمار هذا النص:
( الى والدَيّ..
وإلى أُختي الوحيدة..
ذلك القنديل الذي هداني إلى تدوين ما تختزنه ذاكرتي وما نسجته حروفي لأضعه في هذا الكتاب، فلقد كانت هنالك كلماتٌ مبعثرةٌ وعباراتٌ غير مكتملة متوطنة في أعماق فكري ونفسي لسنوات طوال، وفي تلك الصفحات، وجدتني ألملمها، وببساطة، لاكتب ما لم أتوقع أن أكتبهُ في يوم من الأيام.. سيظل ذلكَ القنديل مضيئاً،وسأظل أنا السائر المُهتدي بوهجهِ ما حييت.)
ثم مقولة لسقراط تؤكد صدق ما سوف نتابعه، ومقدمة اعدتها خطوة لزجنا في خضم النص :
بسم الله الرحمن الرحيم
(إنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِن حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ)
ربما لسعتك القشعريرة الآن.. لا تقلق، فلن تطالك يداه أبداً.
قد يزورك بين الفينة والأخرى متتبعاً اسمي الذي دخل غرفتك مع كتابي هذا. لكن لا داعي للخوف، فسيكتفي بالنظر إليك للحظات، ويمضي راجعاً إلي.. هو لا يستطيع أن يفارقني إلا ما شاء الله، ولا أعلم متى سيشاء سبحانه.
ولقد وردت هذه العتبات النصية التي هي خطوات وئيدة لخوض معترك تجربة الروائية التي عاشتها وخبرت أحداثها. وقد قسمت الاحداث الى فصول معنونة وقصيرة تدخل ضمن المحور الذي تضمه.
وهكذا ندخل ضمن متن النص من خلال المتلقي الذي دعته لمرافقتها طيلة فترة سرد الاحداث:
( نحن الآن داخل ذاكرتي..
لا تحاول أن تسألني، فأنا لا أعلم أين نحن بالضبط. لكن لاتقلق، سأشغل المصباح الذي جلبته معي، فها قد حانت حاجته) ص21
وهكذا نتوغل وعبر الذاكرة المغبّرة الى حياة بطلة هذا النص، وهي طفلة بعمر خمس سنوات تلعب ببالون قرب شجرة النارنج العجوز، وهي تنظر الى البالون وهو يطير، وضوء قرص الشمس:
( لقد رأت الطفلة ما جعلها تقطب حاجبيها، إذ لاحظت أن البالون لم يعد وحيداً.. فهناك شيء ما خرج من العدم، ثم أخذ يهبط برفقة بالونها، ويبدو أنه أثقل بكثير منه، فسرعة سقوطه تفوق سرعة البالون..
على ما يبدو، فقد حصل ذلك البالون على رفيق في رحلة عودته الأخيرة تلك.
وإنه شيء له شكل كرة، لونه أسود لامع.. كأنه كرة بولينج ظهرت من لا مكان!
وفجأ’..
سقط ذلك الشيء الكروي على أغصان شجرة النارنج. فاشتبكت الأخيرة معه في عراك، لتعيقه عن النزول. ولكن، بلمح البصر، انتصرت الكرة الغريبة،وواصلت طريقها نحو هدفها..) ص 33
وكان هدفها تلك الطفلة التي إنتبهت لهذا السقوط فغطت راسها ووجهها على الارض، فأصابت تلك الكرة ظهرها.
من هنا تبدأ المعاناة وتبدأ مسيرة السرد تختلف،إذ أن هذه الطفلة والتي حدثت أهلها بحادثتها الا أنهم لم يجدوا ما يؤكد حقيقة هذه الحادثة، تتغير حياتها وتتحول من الحياة الطبيعية، الى إنسانة أخرى اصابها مس من الجن. فينشأ هذا الصراع بين الانس والجن والشيطان، وتكون عرضة في مسيرة حياتها الى سطوة الجن الذي يعيش داخلها، وقد إعتمدت الروائية لغة عالية صافية دقيقة، منسجمة والسياق الفني الذي اتخذته في إعداد هذا النص, فتنتقل الى عالم الاحلام والكوابيس، ثم الى العالم السفلي، حيث نتابع معها في كل رحلة مع تلك الاحلام هذا العالم، ونرى الجن والشياطين في وجوه مختلفة، بين المرأة ذو الوجه المشوه الشمعي، والرجل ذو القرون، والرأس العملاق دون ارجل واياد،ونشاهد ايضاًمحاولة للتخلص منها بطرق وأساليب تختلف بين حلم وآخر يصل حد الإختناق تستيقظ بعدها مرعوبة،
( الكثير من الناس لايحتملون رؤية الأشكال غير المألوفة التي أراها، كما لا يحتملون ان يكلمهم شيطان.. لكنّ الأمر مختلف تماماً بالنسبة لي، فقد أصبحت تدريجياً أقوى من ذي قبل) ص 57
ثم نتعمق أكثر في هذا النص، فننتقل الى واقع ملموس،وإحساس بطلة النص بوجود الجن داخل جسدها، من خلال إستغلال يدها اليمنى، وتحريك أصابعها بشكل لا إرادي وبأشكال وإشارات مختلفة، منها رفعها الى الاعلى وهي مع زميلاتها في الدراسة، ثم قبض اليد ورفع السبابة وحدها بعلامة تشبه علامة التشهد في الصلاة،او قبض اصبعين وبقاء ثلاث بإشارة تشير الى قرون الشيطان:
( ثم مع مرور الزمن،إرتأى مستعمر يميني أنه قد أزف الوقت لإضافة وضع ثالث الى وضعيّ الإسلام والإلحاد آنفي الذكر، وهو الوضع الأهم بين جميع الإشارات والرموز ألا وهو وضع (الكتابة):
وفيه تتكور الكف، ثم يتقوس إصبعا السبابة والوسطى. فيما يمتد الإبهام مبتعداً عن باطن الكف، ليلامس السبابة، فتبدو الكف بالضبط وكأنها تحمل قلماً، وهنا بدأت أعي المغزى من هذا الوضع .. إن من يقطن يدي يود التواصل معي عبر الكتابة!!.) ص 75
وبهذا تكون بطلة النص التي إبتليت بهذا العالم السفلي قد إكتشفت حقيقة ما يحدث ، لنتابع مرحلة جديدة من خلال المحاورة بالكتابة بينها وبين الجن الذي يسكنها، وبهذه المحاورة الكتابية نكتشف إشياء جديدة عن تلك العلاقة, ونرحل إيضاً عبر فصول هذه النص والاحلام والكوابيس الى هذا العالم السفلي، بطريقة تنم عن إنها تعيش هذه التجربة، كونها تنقل تلك الكوابيس والرحيل الى العالم السفلي بشكل يؤكد الصدق الفني لنقل واقع الحلم وبإسلوب يدل على قدرتها الى توصل معالم تلك الاحلام والكوابيس بصدق.
وأخيراً نكتشف بشكل واضح أن هذه التجربة وهذه المعالم الغريبة العجيبة، والتي نقلتها الروائية بإنماط، الفنتازيا، والغرائبية، والعجائبية، وبإسلوب الموروث الشعبي لحكاياتنا،هي تجربة عاشتها وتعيشها لحد الآن بإقرارها هي وبدخول إسمها وشخصيتها في متن النص:
( ثم بدا عليه التعب الشديد.. فبدأت تتساقط أجزاء وجهه الذي كان يتفطّر تماماً كما تتفطّر قشرة الحمم البركانية. فقال لي بصوت ضعيف:
– ناااااادية .. لن تقدري علينا يا نادية.. فنحن كثيروون..!
فغضبت وقلت له :
– بل بقوة الله أقدر.
إذن فهي الحرب الأزلية بين الشيطان وابن آدم.. ولي فيها واحدةٌ فقط من نهايتين إثنتين :
إما النصر..
وإما لشهادة..
ولن أتقبّل ثالثة) ص 187 و188
وبهذا تكون الروائية نادية الجبوري قد دخلت عالم السرد في روايتها(رهينة العالم السفلي) لتؤكد إمكانيتها في السير بهذا المسار الصعب، وقد قدمت لنا نص سردي مبهر فيه من الخيال الكثير، وفيه من الحقائق الكثير، لنكون مع العالم السفلي بصدق.
ما إصدارات مؤسسة ثائر العصامي لعام 2019