احمد المولوي
لقد تطور مفهوم الفيدرالية بنحوٍ ملحوظ خلال العقد الماضي، ولعلَّ أبرز تجليات الفيدرالية جاءت بعد سقوط الموصل في تموز 2014 حينما تمكن تنظيم داعش الإرهابي من السيطرة على ثلث أراضي العراق وهدد وجود الدولة العراقية، حيث عُدّت الفيدرالية خارطة طريق لإنقاذ العراق، والحفاظ على سلامة أراضيه، وهزيمة تنظيم داعش، وإيجاد ترتيبات سياسية مستدامة يمكن أن تحمي البلد من الانزلاق في دوامة صراعات مستقبلية جديدة.
وكانت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما أول من أثار هذا النهج في تموز 2014، وتحدث بريت ماكغورك نائب مساعد وزير الخارجية السابق -حين الإدلاء بشهادته أمام لجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ- عن استراتيجية احتواء تنظيم داعش ومجابهته استناداً إلى ما سمّاه “الفيدرالية الفاعلة”[1]. ورأى ماكغورك أن هذا المفهوم كان منصوصاً عليه في الدستور العراقي، لكنه لم ينفذ بنحوٍ كامل وفاعل، وترتكز الفيدرالية الفاعلة على خمسة مبادئ أساسية: يجب على المواطنين المحليين أن يبادروا في تأمين مناطقهم المحلية ويجب أن يحصلوا على إعانات وإمكانيات من الدولة. وينبغي على الجيش العراقي أن لا ينتشر داخل المدن إلا في حالات نادرة، بل يجب عليه أن يقوم بمهام فدرالية مثل تأمين الحدود؛ وضرورة وجود تنسيق وثيق بين القوات المحلية والاتحادية والقوات التابعة لحكومة إقليم كردستان للتصدي لداعش الإرهابي. وينبغي للحكومة الفيدرالية العمل على حزمة من الإصلاحات لمعالجة المظالم المشروعة التي سمحت لعناصر داعش بتحقيق الانتشار. فمن حيث الجوهر تترتب الفيدرالية الفاعلة على نقل المسؤوليات الأمنية إلى السلطات المحلية التابعة لكل محافظة، بما في ذلك إنشاء حرس وطني يتألف من وحدات محلية مسلحة من شأنها حماية المناطق التابعة لها وتأمينها، فيما يقتصر دور القوات الفيدرالية على حماية حدود البلاد والقيام بمهام فدرالية أخرى.
وإن أبرز سببين وراء تبني هذا الطرح هما: الأول: إن غياب الثقة بين الجيش العراقي والمواطنين المحليين كان أحد أسباب سقوط الموصل. والآخر: إن الصحوات التي دعمتها الولايات المتحدة في محافظة الأنبار قد أثبتت نجاحاً في مكافحة الإرهاب، ويمكن تكرارها في المحافظات الثلاث ذوات الأغلبية السنية في الحرب ضد تنظيم داعش. وفي هذا السياق، ركزت الفيدرالية الفاعلة في المقام الأول على نقل الصلاحيات الأمنية من أجل التعامل مع مظالم السكان المحليين، واستعادة الثقة في الحكومة المركزية.
بيدَ أن مشروع قانون الحرس الوطني تلكّأ في البرلمان؛ بسبب الخلافات بين الكتل السياسية حول تبعية القيادة -أي هل ستأتمر قوات الحرس الوطني بأوامر المحافظين أو القائد العام للقوات المسلحة؟-، وقد غيرت التطورات في ساحة المعركة -في الوقت نفسه- النقاش حول الفيدرالية. وعلى الرغم من تجنيد آلاف المواطنين المحليين وتدريبهم وإدماجهم في القوات الأمنية والحشد الشعبي إلا أن عبء عمليات استعادة المراكز الحضرية الرئيسة بما في ذلك تكريت والفلوجة والموصل وقع على عاتق القوات الفيدرالية بالنحو الأساس، ودُحضت الفكرة القائلة: “إن تنظيم داعش لا تهزمه سوى قوات محلية”؛ وقد أظهرت استطلاعات الرأي في المحافظات المحررة حديثاً أن السكان يفضلون إلى حد كبير تسلّم الجيش العراقي مهمة حفظ الأمن في مناطقهم.
وهكذا تحوّلت فحوى الفيدرالية الفاعلة من الانتصار في الحرب إلى كسب السلام، بحيث يدعو أنصار الفيدرالية الآن إلى دعم اللا مركزية الإدارية والمالية، والتركيز على ضرورة تعزيز توفير الخدمات الأساسية كالماء والكهرباء والرعاية الصحية والتعليم؛ والسبب وراء ذلك أن الحكومات المحلية على دراية أكبر باحتياجات المواطنين القاطنين في تلك المحافظة وتعمل على تحقيق ما يخدم مصالحهم.
وينطوي هذا النهج على إشكالية كبيرة تعزى إلى سببين رئيسيين: أحدهما هو أنه ليس هناك من دليل على أن الحكومات المحلية لديها القدرة الكافية على استيعاب صلاحيات جديدة، منها على سبيل المثال: إن نظم الإدارة المالية الحالية في الحكومات المحلية التي تعتمد على الأسلوب الورقي غير قادرة على التعامل مع موازنات معقدة وموسعة، فضلاً عن قلة خبراتها في التخطيط الاستراتيجي المطلوب لتطوير خطط استثمارية، أو القيام بالرقابة المطلوبة لضمان كفاءة تقديم الخدمات[2]؛ وبالنظر إلى الضرورة الملحة لتحقيق الاستقرار في المناطق المحررة فمن المرجح أن تحتفظ الكيانات الفيدرالية بقدر كبير من الصلاحيات على المدى المتوسط.
أما السبب الآخر فهو أن الحكومات المحلية ليست أكثر تماسكاً من الحكومة المركزية في بغداد، حيث تعاني هي الأخرى من الخلافات السياسية وسوء الإدارة، ففي عام 2017 صوّتت مجالس المحافظات الثلاث المحررة على إقالة محافظيها؛ فقد أُقيل محافظ الأنبار صهيب الراوي الذي ينتمي إلى الحزب الإسلامي؛ بسبب مزاعم فساد مالي وإداري، وحل محله محمد الحلبوسي عضو كتلة الحل المنافسة. وفي صلاح الدين، حُكِمَ على المحافظ أحمد الجبوري بالسجن ثلاث سنوات بتهمة الفساد، لكن المحكمة الادارية برّأته في وقت لاحق. أما في نينوى، فقد صوت مجلس المحافظة مؤخراً على إقالة المحافظ نوفل العاكوب بعد توجيه اتهامات ضده. والحال نفسه في محافظة البصرة، إذ أفادت تقارير بأن محافظها ماجد النصراوي قد هرب من البلاد بعد أن أصدرت المحكمة أمراً باعتقاله. ويعتقد بعضهم بأن تخصيص مزيدٍ من الموارد السياسية والمالية للحكومات المحلية سيؤدي إلى تفاقم التنافس على السلطة والصلاحيات على حساب المواطنين القاطنين لتلك المناطق وحاجتهم إلى المساعدة العاجلة.
وعلى الرغم من ذلك، فإن التشريعات الحالية توفر مجالاً واسعاً لتنفيذ اللا مركزية[3]. ففي حين تنص المادة 116 من الدستور على الفيدرالية، فإن قانون المحافظات غير المنتظمة بإقليم ذا الرقم 21 لعام 2008 هو الذي صاغ العلاقة بين الحكومة المركزية والمحافظات، لكن القانون المذكور -على الرغم من إجراء تعديلات عليه في عامي 2010 و2013- لم يطبق بنحوٍ كامل؛ ويعزى ذلك جزئياً إلى عدم وجود إرادة سياسية في السابق لإجراء الإصلاحات اللازمة.
غير أن العراق الآن على مفترق طرق، حيث إن هزيمة داعش العسكرية جعلت التركيز يصبُّ على العبء الهائل المتمثل في إعادة بناء المدن المدمرة، وتوفير الخدمات الأساسية، وخلق فرص عمل لملايين النازحين العائدين إلى ديارهم؛ وهنا تبرز أهمية وضع اللا مركزية في سياق ما بعد الصراع.
إن فهم كيفية تحفيز المعنين لتجاوز إشكالات الفيدرالية يمكن أن يمثّل نقطة انطلاق جيدة، وهنا تجدر الإشارة إلى أن اللا مركزية ليست قضية انتخابية بارزة؛ ففي استطلاع لمعهد الديمقراطي الوطني عام 2017، رأى 14٪ فقط من المشاركين في الاستطلاع أن اللا مركزية وسيلة فعالة جداً لتحقيق المصالحة[4]، فيما وافق 42٪ منهم بقوة على أنها تساعد في القضاء على المحاصصة الطائفية في الوظائف الحكومية. وعلى المنوال نفسه أظهر استطلاع أجراه مركز البيان مؤخراً أن أقل من 3٪ من المشاركين في الاستطلاع رأوا أن حل القضايا العالقة بين المركز والمحافظات يجب أن يكون أولوية رئيسة لدى المرشحين في انتخابات هذا العام[5].
ومع الأخذ بالحسبان الاقتصاد السياسي للّا مركزية، والمشكلات الاقتصادية في العراق فإنه من الضروري فهم مسار عملية الإصلاح ووتيرتها.
ومن أجل بيان العقبات القادمة هناك مثالان مهمان: إذ ينص القانون رقم 21 المعدل على دفع مبالغ البترودولار إلى المحافظات المنتجة للنفط، حيث تخصص نسبة 5% من عائدات مبيعات النفط إلى هذه المحافظات، وهو ما لم يتحقق بسبب الأزمة المالية؛ وقد أدّى ذلك إلى ردِّ فعل عام في المحافظات الجنوبية الغنية بالنفط، حيث أهملت الإدارات المتعاقبة تطوير البنى التحتية وتقديم الخدمات. وتلقي الحكومات المحلية -حيال عجز الموازنة لديها- باللوم على الحكومة المركزية بسبب عدم الوفاء بالتزاماتها تجاه مدفوعات البترودولار، الأمر الذي يزيد من صعوبة متابعة إجراءات الإصلاح الأخرى.
ومن الأمثلة البارزة على ذلك هو إصلاح نظام الكهرباء؛ إذ قدمت الحكومة المركزية مشروعاً طموحاً لتجهيز الكهرباء على مدار 24 ساعة من الشبكة الوطنية، وخصخصة جباية الأجور؛ وهو ما سيوفر عائدات كبيرة، ويخفض من نسبة الهدر في الطاقة؛ لكن هذا المشروع جوبه بمعارضة شعبية واسعة في المحافظات الجنوبية، ووصل الأمر بالحكومات المحلية إلى أن تقترح دفع فواتير الكهرباء مقابل الدين المستحق لها لدى الحكومة المركزية من مدفوعات البترودولار.
وعلى الرغم من كل تلك العقبات، فقد تم إحراز تقدم ليس بالقليل في تنفيذ بعض جوانب القانون رقم 21 على مدى الشهور الاثني عشر الماضية، بما في ذلك نقل المديريات الفرعية والأقسام في سبع وزارات فدرالية؛ حيث تم نقل الموظفين والمؤسسات دون نقل صلاحيات الموازنة. ويبقى الحلُّ قائماً حيال كون اللا مركزية تعني نقل الصلاحيات إلى وحدة إدارية تابعة للحكومة الاتحادية على مستوى المحافظة، بدلاً من نقل الصلاحيات الفعلية إلى هيئات تابعة للمحافظة[6]، ولكن ينبغي لصناع القرار ألا يغيب عنهم الهدف النهائي، فإذا أُريد للعراق أن ينهض من عقود من الصراع، ويهيّئ الظروف لتحقيق سلام مستدام، فإن من أولويات ذلك إعادة بناء الثقة بين المواطنين والدولة من خلال إظهار إدارة فعالة وكفوءة، وينبغي قياس فاعلية الفيدرالية في العراق على وفق هذا المعيار.
*مركز البيان للدراسات والبحوث.