نقلت وسائل الإعلام خبر إصدار إحدى محاكم قضاء الغرّاف التابع لمحافظة ذي قار (الناصرية) مذكرة إلقاء قبض بحق أربعة شباب من سكان تلك المدينة، بتهمة الإلحاد، تطور يؤكد ما حذّرنا منه مراراً وتكراراً، حول مخاطر انخراط مؤسسات القضاء العراقي بمثل هذه الملفات ذات الطابع العقائدي والفكري المحض، التي تفقده أهم خصائصه ألا وهو حياديته ومهنيته واستقلاله. لسنا بصدد فك طلاسم هذه “التهمة” وجذورها والدور الذي لعبته على تضاريس هذا الوطن القديم، لأن ذلك سيكون في غير صالح السلطة التي منحتها الأقدار العابرة للمحيطات فرصة أن تكون عادلة ومنصفة ومستقلة. يوماً بعد آخر وبعد سلسلة من المعطيات والأحداث، لن تكون آخرها مذكرة مطاردة الإلحاد في الغرّاف، تتأكد مخاوفنا من استحالة بقاء هذه المؤسسة (القضاء) وتشكيلاتها الواسعة والمتعددة، بعيداً عن أمراض وعيوب المجتمع والدولة التي وضعت العراق ضمن البلدان العشرة الأكثر فساداً في آخر التقارير الصادرة عن منظمة الشفافية الدولية. لقد عرف سكان هذا الوطن المنكوب بكل أشكال القمع والتخويف وتكميم العقول والأفواه؛ غير القليل من المحطات المظلمة والجرائم التي ارتكبت تحت شتى التهم والذرائع ومنها هذه التهمة الصالحة لكل المناسبات والحاجات (الإلحاد)، لكن غالبية تلك الانتهاكات كانت تنفّذ بيد قوى وجماعات تابعة لمصالح وعقليات لا علاقة لها بمؤسسات الدولة الحديثة ولا سيما عمادها الأساس (القضاء) الذي تحولت وظائفه جذرياً فيها، من نصرة السلطان والطبقات الحاكمة الى الانتصار لقضايا الحداثة والديمقراطية والحريات، وهي أساس استقرار الأمم وازدهارها. إن هذه المذكرة التي أشرنا اليها وغيرها من أحداث تطرقنا اليها في مناسبات سابقة، تشير الى منحى خطير في المشهد الراهن؛ فالقضاء يفترض أن يكون هو الملاذ الأخير والآمن لكل من انتهكت حقوقه في العيش بوطنه حراً كريماً. مشكلة البعض ممن ارتدى زي وعنوان هذه المهنة الجليلة (القاضي) أنهم لم يعيروا الجانب الثقافي في تكوين شخصيتهم، حيث لا يرى البعض منهم أهمية إطلاعهم بصورة كافية على شتى العلوم الإنسانية، ومنها الفلسفة والأدب العالمي وعلم النفس وغير ذلك من مستلزمات فهم ما يدور حولنا من هموم واهتمامات تجاوزت منذ زمن بعيد، ما يشغل البعض منهم من هموم انتهت صلاحيتها مع ترحيل “محاكم تفتيش القرون الوسطى” الى متاحف التاريخ الطبيعي، بوصفها جزءا من المنقرضات التي فتكت يوماً بسلالات بني آدم. ليس هناك أدنى شك من أن محكمة الغرّاف في مذكرتها التي أطلقت فيها النفير لمطاردة “الإلحاد” لم تطارد سبينوزا الغرّاف، كما حصل مع محاكم التفتيش في إسبانيا قبل ثلاثة قرون، ولا اعتقد بظهور نسخة جديدة من كوبرنيكوس في تلك المنطقة الجنوبية التي تأن من بؤس التعليم وكل أشكال الخدمات، بل أصدرت هذه المذكرة تناغماً والمناخات المثقلة بالتخويف والترويع التي تحرص على “بقائها وتمددها” القوى والمصالح والعقليات التي أهدتنا كل هذا الخراب الأخلاقي والمعرفي والقيمي قبل “التغيير” وبعده. بالنسبة لي شخصياً أدعو السيد القاضي الذي أصدر مثل هذه المذكرة، الى السفر لا الى البلدان المعروفة بدفاعها عن الحريات بأشكالها المختلفة ومنها حرية الاعتقاد، بل الى الجارة إيران التي يخضع فيها الدستور والقانون لما يعرف بـ (ولاية الفقيه) ليتعرف عن كثب بمستوى ونوع الحوارات الفكرية والعقائدية فيها، عسى أن يتريث قليلاً ولا ينافس الفقيه نفسه في هذا الميدان الذي ستحتاج لا شبيبتنا بل نخبنا “المثقفة” الى مشوار طويل كي تصل لضفافه..
جمال جصاني
محاكم التفتيش في الغراف
التعليقات مغلقة