يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 5
قبضوا عليه عشية اعلان الشواف عن محاولته الانقلابية ، واودعوه الغرفة التي كانوا يحتجزون فيها الضباط الاخرين ، وكنت على مقربة ولم اشهد ساعاته الأخيرة ، وانما شهدنا كل من الصديقين الرفيقين (رشيد سندي )و (يوسف جميل ميران) وهما من الاحياء والحمد لله ، كيف اقتاده الرائد محمود عزيز الى حيث اطلق عليه النار قبل هربه الى سوريا، فربما طاب لهما ان يزيدا شيئا على ما ذكرت.
وتشاء الاقدار ان يقتص احد ابناء هذه التربة التي اخذها كامل معه من ذلك بمفاجآت الفشل والنجاح . ومن لا يخسر لا يربح . وبراعة المحامي وذيوع صيته لا يتحددان بنسبة ما ربحه وخسره من دعاوى . وقد تتوقف شهرته –وربما كانت ضربة حظ – على دعوى او قضية واحدة فاز فيها، فهناك ارادات كثيرة تتحكم في مال القضية المعقدة المتعددة الجوانب بل الواضحة منها .
وفي زمننا وجيلنا ذاك وانا اقصد ما قبل نصف قرن تقريبا . كان على المحامي الدؤوب ان يلم بجميع القوانين . فالمجتمع العراقي اذ ذاك كان مجتمعا بسيطا غير معقد ، لا يقتضي تخصصا في المحامي بقضايا معينة كالذي نراه في بلاد الغرب . في الولايات المتحدة الاميركية او فرنسا او غيرها مثلا حيث التخصص فرض ولا سبيل للتنكر له ولا غنى عنه .
وفي ايامنا كانت الحركة الاقتصادية محدودة ، والتعامل التجاري اغلبه محلي والخارجي منه ضيق النطاق . والجرائم تكاد تكون واضحة بسيطة لا تتميز بذلك التعقيد والتخطيط الذكي الذي تجده في الافلام السينمائية الاميركية الحديثة مثلا . لم يكن عندنا شيئا شبيه او قريب الشبه بالإجرام المنظم الذي تقوم به عصابات تمتاز بتنظيم وادارة محكمة اشبه بأدارة حكومية . وقليلا ما كانت دوائر التحقيق تحتاج الى وسائل الكشف الحديثة عن الجرائم كالمختبرات والفحوص الطبية الدقيقة واستطيع القول هنا بناء على تجربتي الخاصة ان اكثر ما كان يستخدم مكتب طبع الاصابع في بغداد هو للقضايا المدنية . في حين كان الاساس في استحداثه في العراق هو للأمور الجنائية أي المساعدة على كشف الجريمة . كانت الجرائم فردية الطابع بمجملها لا تحتاج الى كثير عناء في الكشف عنها . ولا الى التكنلوجي والعلم المختبري لدعم الادلة فيها ، وتبعا لذلك صيغت القوانين العامة ، واهتمت الحكومات بالجانب السياسي منها . وبدأ التنقيح والتعديل والإضافة والزيادة فيها كانت من هذه الناحية عملية لا نهاية لها تجري على ضوء التجارب المستخلصة من الزخم السياسي ارتفاعا وشدة ولا سيما في القوانين التي تمس الحريات العامة ، كقانون المطبوعات الذي بدأ طوال ثلاثين عاما تقريبا وكأنه ملهاة او لعبة تتسلى بها الحكومات لتتناوله بالمراجعة والاضافات والتعديل وكمثيله تلك القوانين المتعلقة بالاجتماعات والتجمعات العامة والتظاهر والاحتجاج الشعبي . ثم جاءت القوانين الملحقة او المعدلة لقانون العقوبات العراقي الذي كان يسمى بالبغدادي في البابين اللذين يتعلقان بأمن الحكومة الداخلي وامن الدولة الخارجي بسبب تفشي الاراء العصرية الحديثة السياسية واخصها المبادئ الاشتراكية . وتصاعد حركة المطالبة بالاصلاح الدستوري بكل المخاطر التي تهدد الطبقة الحاكمة . ومن أوائلها تلك الضربة القاصمة التي انزلتها حكومة ياسين الهاشمي في العام 1935 بأشتراعها مرسوم الاحكام العرفية التي هتكت به حرمة القضاء العراقي ، واعادت العراق الفتي الى اجواء العهد العثماني البغيض، جئت الى هذا بتفصيل في الجزء الثاني من كتابي (العراق في عهد قاسم ) ولا داعي هنا للتكرار واضنك على اطلاع به ، وقصدي من التنويه بهذا هنا ، هو ان مهنة المحاماة صارت تواجه لونا جديدا من القضايا هي القضايا السياسة او الجرائم الناشئة عن تلك القوانين المستحدثة الشاذة .
كانت طبقة المحامين ورجال القانون تكاد تهيمن تقريبا على النشاط السياسي لمعارض . وكثيرا ما وجدنا المحامي يدافع عن زميله المحامي المتهم ، لا سيما في جرائم النشر والعقيدة .
ومهما يكن من امر فبراعة المحامي عندنا كانت تتجلى في القضايا المدنية لا في القضايا الجنائية . ففي هذه الاخيرة لم تكن تفيد بصورة عامة لوذعية المحامي وقوة عارضته وكفاءته الخطابية في تحويل قاض منفرد او هيئة من ثلاثة قضاة تزن الادلة وتصدر الحكم ببرودة دم ونجوة عن المؤثرات العاطفية ولا يجد المحامي لنفسه مجالا امامها للمناورة والحرية الواسعة لاستجواب الشهود وايقاعهم في فخاخ التناقض كتلك التي نجدها في المرافعات الجنائية الغربية التي تستند في تقرير البراءة او التجريم الى نظام هيئة المحلفين (الجوري)
وبالنهاية كان الوضع القضائي بصورة عامة يرغم المحامي على الالمام بكل القوانين وان يكون دوما على الاستعداد لولوج بباب اي قضية تعرض عليه وهذا لا يعني حرمان المحامي من حرية اختيار قضاياه طبعا ، ، وكثيرا ما تراني كما ترى غيري اخرج من مرافعة في دعوى شرعية تتعلق بأثبات بنوة ، لالج قاعة محكمة اخرى تنظر في قضية نزاع على ارض او اتفاقية شركة ولاعرج بعدها الى محكمة ثالثة وكيلا للدفاع عن متهم . وفي مثل هذه الحال كنت اضع مقولة رائعة للمحامي الفرنسي الشهير (روجيه مارتان ) ، اذ سئل مرة عما يجب ان يتحلى به المحامي فأجاب :” على رجل القانون ان يعرف القليل من كل شيء ، وايضا القليل من القانون “.
ولهذا كان بعض اسباب تمكني من مهنتي تتبعاتي العلمية وكثيرة مطالعاتي في منتوج الفكر الغربي عتيقها وحديثها في مختلف ابواب المعرفة وبوقوف افخر به على اسرار اللغة العربية الرائعة والمامي بلغتين عالميتين (الانكليزية والفرنسية ) والاسلوب الكتابي المبسط السليم الذي افادني في كتابة اللوائح القانونية والمذكرات . وعليه الاعتماد وهو يفوق المرافعات القولية اهمية .
وعلي وقد بلغت هذه المرحلة من الاجابة وجوب التنويه بدور القاضي الرئيس المتمم . القاضي الجاهل او المغرض الضعيف الذمة الذي يكون مصدر هم عظيم للمحامي النابه ، قدر ما يكون المحامي المهمل القليل الادراك والحرص على مصلحة موكله مصدر نفرة وضيق ان لم يكن مصدر استهانه واحتقار القاضي النابه ، وقد مر عهدي بمجموعة من انزه القضاة واكثرهم علما ومتابعة فقهية . ومن عجب ان تجد الجهاز القضائي في بيئة حكومية معيبة كهذه وقد سلم تقريبا من الفساد ، وابى رجاله ان يكونوا خدما لاغراض الحكومات لا سيما في القضايا التي تكون السلطة طرفا . واعنى بالضبط القضايا السياسة خصوصا .
س: هل لي أن افهم من هذا ان يد السلطة بقيت مكفوفة أمام الجهاز القضائي ، ومن المعلوم ان انتقاء القضاة يتم من قبل الحكومة ؟
الجهات الحكومية تجهل طبعا من سيكون قاضيا طيعا مستجيبا عندما يطلب منه ، والحكومات في تغيير سريع مستمر .ثم ما ان يتسلم القاضي الجديد منصبه حتى يستولي عليه شعور طاغ بخطورة مهمته وبمسؤوليته الضميرية الثقيلة ولا استثني من هذا أولئك الذين وصلوا الى القضاء بطريقة الوساطة ، او بسبب انتماءاتهم العائلية.
وفي زمني – ولا ادري ان كان هذا المبدأ اليوم ساريا –ان يقدم كل قاض احصاء سنويا بالدعاوى التي حسمها الى وزارة العدل . وقد يتعرض للعزل ان زادت نسبة القرارات التي نقضت له عن 40 بالمائة من مجموع ما نظره . اؤكد ان عراق ايامي كان يحفل بمجموعة من القضاة ضرب بعملهم ونزاهتهم المثل . يزينون اي نظام قضائي في اي بلد قطع شوطا بعيدا من المدنية العصرية والتقدم في ميدان المفاهيم والمبادئ الديمقراطية .
تبدو قلة حيلة الحكومات العراقية ازاء هذا الجهاز الذي صعب عليها تطويعه ، في استنانها القوانين الاستثنائية التي يكون من شئنها استلاب القضاء سلطانه وصلاحيته في النظر بناحية من اهم النواحي التي خلق لها وهي تلك التي تتعلق بحرية التعبير والمعتقد والتنظيم الحزبي والاجتماع وما اليها فأصدرت مرسوم الادارة العرفية ومن شأنه ان ينقل سلطة القضاء كليا او جزئيا الى الجهة العسكرية في الوقت التي تشاء الحكومة ما ذلك واصدر نظام دعاوى العشائر الذي نقل سلطة الفصل في النزاعات الجزائية والمدنية الى الاداريين . وقانون المطبوعات الذي استلب حق الفصل في حقوق الفرد بالنشر والتعبير الضمير بإيداع مصير المطبوع يد الادارة وهكذا . من جهة اخرى عمدت الحكومات الى تشويه وجه القضاء بإرغام القضاة والمحاكم على تطبيق القوانين الجائزة التي تشترعها في هذا الباب عندما لا تكون الاحكام العرفية معلنه w–وبحكم وظيفتها – ولم يفتنا قط ملاحظة مجهودات اولئك القضاة للتخفيف من غلاظة احكامها وقسوتها بأختراع كثير من وسائل التخفيف وغيرها من الوسائل الشرعية للاباحة ضمن حدود الأصول.
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012