عبدالله العودة/ ناثان براون
نظراً إلى التغييرات المذهلة التي شهدها السعوديون مؤخراً، قلّة تنبّهت إلى الإجراء التقني في الظاهر الذي ينظر فيه راهناً مجلس الشورى. وهو يتيح لخرّيجي كليات الحقوق الانضمام إلى السلك القضائي في البلاد، بعدما كان الأمر حكراً، منذ تأسيس البلاد، على خريجي كليات الشريعة. إلا أنه من شأن هذه الخطوة أن تكون لها آثار بعيدة المدى، كما أنها تندرج في إطار سلسلة أوسع من الخطوات للحدّ من مجموعة التقاليد والممارسات التي وفّرت، لوقت طويل، استقلالية نسبية للقضاء السعودي.
في دول عربية أخرى، يركّز الناشطون في السلك القضائي على ضمانات الاستقلالية الرسمية أكثر من الضمانات غير الرسمية: إلغاء المحاكم الخاصة، إنهاء حالات الطوارئ والتدابير الخارجة عن نطاق القانون، إضافةً إلى إنشاء مجالس قضائية قوية متحرّرة من تدخّل السلطة التنفيذية، وقادرة على ضبط التوظيف والتعيينات والترقيات في القطاع القضائي، ويمكنها بالتالي التمتّع بسلطة كاملة في مجالَي الموازنة والإدارة.
لم تكن سوى بعض هذه السمات الرسمية موضع نقاش في السعودية (التي ليست لديها حال طوارئ مثلاً). بدلاً من ذلك، اعتمد السعوديون، طوال عقود، على الآليات غير الرسمية التي منحتهم استقلالية ونفوذاً. لكن ربما تختفي هذه الآليات الآن. فقد تؤدّي التغييرات الجوهرية في الأعوام الأخيرة، على غرار التغييرات الأوسع نطاقاً التي يجري النظر فيها راهناً، إلى زوال مجموعة الآليات غير الرسمية.
أدّت الآليات التاريخية غير الرسمية دوراً فعّالاً في جعل موقع المحاكم السعودية قوّياً. كانت الاستقلالية إلى حد كبير وليدة أساليب تقليدية في التعلّم (مثل حلقات التعلّم) وفي التدريب، ماأفسح في المجال أمام استقلالية الاجتهاد القانوني والتقديرات القضائية. اجتمع التدريب والخلفية المتشابهان لمنح القضاة إحساساً قوياً بالانتماء إلى هوية جماعية. كان الحكّام السعوديون يظهرون لهم احتراماً كبيراً ويُحاذرون في التعاطي معهم.
مما لاشك فيه أن الأدوات لم تكن غير رسمية بالكامل. كان للنظام القضائي أساسٌ قانوني مدوَّن. في العام 1926، أصدر الملك عبد العزيز آل سعود مرسوماً نصّ على جعل المدرسة الحنبلية (وهي من المقاربات السعودية المسيطِرة) التقليد الرسمي الذي يجب تطبيقه في المحاكم السعودية. غالباً مايوصَف رجال القانون المدرَّبون في هذه المدرسة بـ”الوهّابيين”، إنما، وفي شكل عام، ليس من قبل المنتمين إلى هذه المدرسة الذين ينعتون أنفسهم عموماً بالسنّة والحنبليين. في حين يدرس هؤلاء الآراء القانونية لمحمد بن عبد الوهاب، يُعيرون قدراً موازياً من الاهتمام لأسلافهم الحنبليين بصورة عامة. عادةً يقاوم الحنبليون، وعدد كبير من الفقهاء الإسلاميين المدرَّبين على العقائد الكلاسيكية في شكل عام، المأسسة الشاملة. والسبب هو أن الفقهاء ارتابوا تقليدياً في أن ذلك قد يمهّد الطريق أمام سيطرة الدولة (أو سواها من أشكال السيطرة الخارجية) على الفقه والدين.
لكن على مر السنين، عمدت الدولة السعودية إلى تعزيز العمل على إضفاء الطابع الرسمي بطرق أدّت تدريجياً إلى تقليص دور القضاء. مؤخراً، تسارعت الوتيرة عبر استخدام ثلاث أدوات. تمثّلت الأداة الأولى في الاعتماد على المراسيم الملَكية والحكومية حول المسائل القانونية الجوهرية – والمراسيم هي عبارة عن تشريعات مدوَّنة تؤدّي إلى تقلُّص المساحة المخصّصة للتفكير المستقل التقليدي المعروف بالاجتهاد، الذي يمارسه القضاة. وفي الآونة الأخيرة، تحوّل سيل المراسيم المتقطّع إلى دفق مطّرد؛ ويخشى القضاة أن يصبح فيضاناً في وقت قريب.
الأداة الثانية هي تشكيل محاكم متخصّصة وهيئات شبه قضائية مستندة بالكامل إلى مراسيم حكومية وتوجيهات إجرائية رسمية أدّت تدريجياً إلى تقويض اختصاص المحاكم العامة. لقد أصبحت هذه المجموعة من الهيكليات واسعة جداً إلى درجة أن أحد القضاة في المحاكم العامة وصفها بـ”قضاء الظل”. لقد لاحظ القضاة أن الشؤون المتعلقة بالضرائب والتأمين أصبحت في عهدة لجان شبه قضائية. وباتت هذه اللجان تمتلك الكلمة الفصل في مجال تخصّصها، وتُصدر آراء لم يعد بالإمكان استئنافها أمام المحاكم العامة. أما بالنسبة إلى القضاة في المحاكم العامة، فيعني هذا التغيير أن قضاء الظل خرج بالكامل إلى الضوء.
الأداة الثالثة هي ممارسة السلطة التنفيذية إشرافاً أكبر على القطاع القضائي. في العام 2012، أصبح وزير العدل آنذاك محمد العيسى أول من يتسلّم أعلى منصب قضائي كرئيس مكلّف للمجلس الأعلى للقضاء، من دون التخلّي عن حقيبته الوزارية. وفي حين اعتبر الوزير وأنصاره أنه أمرٌ ضروري من أجل التعجيل في تطبيق الإصلاحات القانونية والقضائية، أبدى بعض القضاة امتعاضهم من تضارب المصالح المتأتّي من تسلّم العيسى المنصبَين في الوقت نفسه. واعترضوا أيضاً على استخدامه لسلطته القوية من أجل إدارة مختلف المسائل المتعلقة بالشؤون القضائية وصولاً إلى التفاصيل الصغيرة، واعتبروا أن سلوكه ثقيل الوطأة.
يبدو أن هناك أداتَين أخريين قيد التحضير: تتعلق الأولى بالتعليم والتدريب، ومن شأنها أن تؤدّي إلى زيادة رقابة الدولة وسيطرتها على المنظومة التعليمية التي تُدرِّب القضاة وتُخرِّجهم. يُشكّل ضم خرّيجي كليات الحقوق إلى القضاء العادي، وفقاً للاقتراح الذي يناقشه مجلس الشورى، خطوة مهمّة في هذا الاتجاه. صحيح أنه لايزال على هؤلاء الخرّيجين إنجاز برنامج في الشريعة ممتدّ على عامَين، إلا أن هذه الخطوة لن تؤدّي فقط إلى انحسار تدريب القضاة استناداً إلى الشريعة، بل ستؤدّي أيضاً إلى تعزيز مجهود قائم في الأصل لتوسيع دائرة تعيين القضاة.
الخطوة الثانية التي يجري الحديث عنها هي جمع الأنظمة القضائية وشبه القضائية المختلفة في مؤسّسة موحّدة. ومن شأن هاتَين الخطوتين، في حال تنفيذهما، أن تُسفرا عن تراجع جذري في سلطة المحاكم العامة التقليدية واستقلاليتها. وهذا سيحوِّل فعلاً “قضاء الظل” إلى القضاء العادي، كما حصل سابقاً في معظم الدول العربية، حيث إن محاكم الشريعة لم تعد، منذ وقت طويل، محاكم ذات اختصاص عام للنظر في القضايا القانونية غير الشخصية.
لقد حاول القضاة السعوديون استخدام حسّهم غير الرسمي بالانتماء الجماعي من أجل مقاومة هذه التدابير. في العام 2013، وقّع أكثر من مئتَي قاضٍ عريضة تستهدف بكل وضوح العيسى، وتتضمّن انتقادات “لتأخير تنفيذ مشروع تطوير القضاء”. وقد أشار موقِّعو العريضة إلى “ماانتهجته الإدارة المذكورة [وزارة العدل] من تغليب الوعود المتتابعة والتصريحات الإعلامية على حساب الحقائق المرجوّة والأفعال المطلوبة”. واعتبروا أن الوزارة “سعت مؤخراً – بشتى الوسائل – وبشكل ملفت للنظر إلى قمع وإخماد كل الأصوات الناصحة لدينها ووطنها”. وتحدّثت العريضة أيضاً عن “امتعاض غالب لدى القضاة” و”احتقان غير مسبوق” داخل الوسط العدلي. وطالبت بتغيير يضمن استقلالية القضاء واحترام القضاة. أخيراً، شجبت العريضة المضايقات التي يتعرض لها القضاة على أيدي السلطة التنفيذية، والظروف التي تقف خلف استقالة عدد من القضاة الشباب المعروفين بصراحتهم في التعبير عن آرائهم.
لم يتأخّر العيسى في الرد. أولاً، وضع أنصاره عريضة مضادّة جمعت عدداً أكبر حتى من التواقيع. ثانياً، فُرض على موقِّعي العريضة الأولى إجراءات عقابية. فجرى إحالة بعضهم إلى التحقيق، فيما مورِست ضغوط على بعضهم الآخر وصولاً إلى دفعهم نحو تقديم استقالتهم. وقد طأطأ الباقون رؤوسهم خشية أن يواجهوا المصير نفسه.
وقد استمرّ نمط الصمت العام. قبل أقل من ثلاثة أشهر، شنّ جهاز أمن الدولة في المملكة هجوماً غير مسبوق على القضاء عبر توقيف بعض القضاة من المحاكم المتخصصة (في مكافحة الإرهاب). لم تُوجَّه إليهم أية تهم، ولم تشرح الدولة ملابسات الخطوة أو حتى تعلن عنها. لم يستقطب احتجاز القضاة بطريقة خارجة عن نطاق القضاء، الكثير من التعليقات من الرأي العام. غير أن التوقيفات لم تمر مرور الكرام: فقد أطلع أحد القضاة، الشهر الماضي، مؤلفَي هذا المقال أن القضاة أصبحوا أكثر تشكيكاً بالوعود التي أُطلِقت مؤخراً للإصلاح القانوني، وأشدّ قلقاً بشأن حصانتهم كقضاة، وأكثر شعوراً بالخوف إبان التدخّل غير المسبوق للسلطة التنفيذية في الشؤون القضائية.
لايملك القضاء السعودي الكثير من الوسائل الرسمية لمقاومة هذه التحدّيات المؤسسية، والسبب الأساسي هو اعتماده في السابق على الروح الجماعية والأدوات غير الرسمية. ليس هناك من جهاز شبيه بنادي القضاة المصري، أو أية وسيلة أخرى للتحرّك بصورة جماعية. حتى إن القضاة السعوديين يخسرون الآن الأدوات غير الرسمية التي كانوا يمتلكونها لحماية أنفسهم من السيطرة والتعسّف.
جرى الترويج لحملة الاعتقالات التي أسفرت عن توقيف أمراء ورجال أعمال سعوديين بارزين في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، بعد جولتَين من التوقيفات التي طالت باحثين وقضاة، على أنها مؤشّر عن أن كبار الشخصيات في أسرة آل سعود لم يعودوا خارج “القانون”. ربما كان ذلك صحيحاً، غير أن تلك التوقيفات لم تشكّل خطوةً نحو سيادة القانون بالمعنى الليبرالي للعبارة، بل كانت مؤشراً على أن القيادة العليا في السعودية تتعلّم كيفية استخدام الأدوات القانونية لتحقيق أهدافها في السياسات وتثبيت موقعها. والحقيقة هي أنها تستخدم القضاة، الذين يُطلَب منهم الآن التصرّف كموظفين في الخدمة المدنية، سلاحاً جديداً في ترسانتها.
* ينشر هذا المقال بالاتفاق مع مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي ٢٠١٤
لقراءة النص الأصلي٬ اتبع الرابط التالي: http://carnegieendowment.org/sada