صياغة الزمن شعرياً
ناظم ناصر القريشي
يقول الشاعر الألماني هولدرلن : “الإنسان يستوطن الأرض شعرياً ” و أنا أقول وهل يستطيع أن يصاغ الزمن شعرياً.. فمسافة الوقت من الباب الأمامي للنهار الى الباب الخلفي له هي قصيدة الحياة, و روح الشاعرة التي تهيم مع أفكارها وهواجسها و كلماتها التي تصحو في الزمن,فهي تفتح الحواس على تدجين اللحظة الشعرية و البحث عن معنى للزمن هذا الكائن غير المرئي وهو ينساب عبر نهاراتنا ليتوارى عبر الباب الخلفي للنهار حاملا معه الاغتراب والتيه والعزلة التي تواجه حياة الإنسان,ولما يضج فيها من صراع واشتباك واستلاب, فيصبح الزمن زمن أخر في القصيدة ويصبح الشعر لغة لهذا الزمن وكما يخبرنا الشاعر إن «الشعر بوصفه أدبا، وبوصفه لغةً، يكشف في العالم عن طبقة موجودة ولكن الأعين لا تلاحظها في الواقع ، وهو بقيامه بهذا يغيِّر في حياتنا ،يوسِّع الفضاء الذي نحن إياه « فنجد وراء الرؤية رؤيا تعبر عن جوهر الأشياء و تكشف لنا عن ما لا نراه و لكن نشعر به دائما و يسايرنا فتقول الشاعرة في قصيدة ( الباب الخلفي للنهار ) التي منحتها عنواناً للديوان
أن تكون هدفًا متحركاً
خارج اللعبة
خارج المعركة
إلها اعزل
أن يكون الهواء ملغمًا..
بتفتيش راسك
سريرك
ساحة وقوف أمنياتك
أن تستدرج حركاتك..
غضبًا غامضاً
وريبة رعناء
فالشاعرة أمال ابراهيم في ديوانها ( الباب الخلفي للنهار ) الصادر عن دار الغدير للطباعة و النشر و التوزيع بالبصرة بقصائده التسعة عشر دائمة التنقيب في التقاطعات ما بين الغياب و الحضور والحياة و القصيدة ،والشخصي والعام. وهي في دأب في البحث عن معنى لوجودها ،و عما انفرط منها، في حالة وعي مكثف بذاتها إذ يبدأ التحول عبر ما تعيشه من صراع يمس وجودها ومصيرها. فتقول في قصيدة (غيبوبة(:
حين وصلت قدماهُ الفاقدتانِ للذاكرة
كان ظلّه يراجعُ الطريق
و الأحذيةُ تقلّب جدواها
في جيبه كرزات الشمال
وكفٌّ أبقت عليها الصدفة..
المدينة يشوي جلدها عقرب الساعات
معدموها غارقون بأداء الزكاة
ويؤدي اطفالُها عنها الفرح
الطاحونةُ للآنَ تشتهي الريح..
حين وصل بأحلامه الكاملة،
كان ولدُه يرسم العائلةَ على السّياج
مع أبصال النرجسِ العذراء
ذات الموسم الواحد..
وهي:
كانت تسجر التنور..
بأسمال وكتبٍ ممنوعة
بألعاب الصّغار التي صنعتها
ليلةَ عيدٍ مُفلسة
كان قد تركها أغنيةً على خدّ منديل
ظلهُ غطى الخبزَ والحطب
أخذت تقبّله… حتى الغياب
ترسم الشاعرة لنا بانوراما شعرية من خلال التراكم الإبداعي ( المصاب بإدهاش الجميع )بلغة موجزة ومكثفة عميقة الدلالة؛ فتبدو هنا خلال هذه القصيدة , مرئية و ملموسة و مؤثرة ، وكلماتها تتبرعم كبذور مليئة بالنمو في داخلنا , و قد تفعل الكلمات الكثير من اجل استمرار الحياة و الحب و لو شفهيا… حتى الغياب
فتقترح القصائد علينا بحمولتها الإبداعية و الفلسفية العميقة المعنى، حضورها الشعري و هي بكامِل أناقتها من خلال الضوءِ النحيل الذي سيتسرب عبر الباب الخلفي للنهار ؛شفرة الزمن إذ تبدو أكثر إصرارا و إثارة على الحضور يمثلها الضوء و الضلال مخفورا بقطيع من الأوهام و الأحلام ,وهو يتجول كموسيقى صامته في الفراغ فتقول بقصيدة ( مستقيم خرف)
لم يعانِ كما يجب…
هذا الخط الذي لم يتكبّد عناءَ النقاط
خجلا من الزوايا التي كلما كبرت
أشارت الى السماء
نظرية ساذجة تلك التي ترميه بأقصر الطرق
ما بال منعطفات العشب والضوء؟
فتتأمل الشاعرة أفكارها وهي تنمو كنباتات زاحفة بلا ماء , رغم أن ساعة الوقت الرملية تنغلق على ذاتها , لغة الشاعرة هنا هي من حيث دلالاتها التأويلية خطاب للخلاص ,الباحث عن وجود افتراضي , مضاد للغربة والاستلاب، فنجد أن الكلمات تنصهر في لحظتها فتأخذ ملامح الوقت الذي مر بها فتقول في قصيدة (نباتات رأسي الزاحفة )
شقوق الحائط
حفر الرأس
شرخ القلب القديم
كلها تصلح للهرب.
أيها النردُ..
رموا بنا في حِجْر عائلة مذهولة
وبسالاتٍ تجوب المدينةَ في الظلام
أتحسس القضبان تنبت بين شَعري
بيضاء من الحكمة..
الجياع يفضلون الخبزَ الأسمر
كاملَ القشرِ والأتربة
الجياع جدًا..يفضلون المورفين
ثانيةً
يضيق الرأس ويلتصق السؤال الذي
لا يؤكَلُ ولا يموت
يزحف في الشيب ليلا
ليدفعَ بعناقيدِ سُكّرٍ خالٍ من الأتربة
خارجَ الذهول.. والمدينة
من الأفضلِ أن أعيدَ تسقيفَ رأسي
فجنينُ الفكر ينمو معافى في الظلال
الجدار..
يضيق بالنوافذ
شروخٌ تتسلقُ الرأسَ
وتلتوي…
فالشاعرة تنشد زمنها ,و تمسك بجذوة الشعر المقدسة في اللحظة التي ستنمو وتغدو قصيدة كما لو كانت تخفق بجناحي الخيال، فالروح الشاعرة لم تكن سوى همسة أو نسمة تتسلل بين الكلمات لتستقر على شجرة القصيدة،و هي في شبه حلم يفيض عنها , فيصل الى إحساسنا شعورها الواثق باليقين في قدراتها وفي معرفتها وتجربتها ، أن هناك جزء أصيل فينا ينشد الخلاص أيضاً فتقول في قصيدة ( أمنية الفريسة )
كم أنت ممتع!
كحزمة ضوءٍ اكتشفت للتو ثقب الباب
تسلل
وغلف الكلمات بالنشوة
دسها في أذني المرهفة الآن
الظلام دامس هنا
في هذا الرأس العتيق
أية حكمة ترجى من بومة عمياء؟
الغابةُ.. تمني النار بوجهي
بعد كل مكاشفة
بعد كل ومضة..
أيها الضوء
أيتها النشوة..
ادخلا رأسي آمنين..
فالشاعرة تبحث عن معجزة وحيدة هي أن تكون ذاتها لا إنساناً حزيناً فرغت روحه من كل قوته، فتقول بقصيدة ( ورقة ):
ورقة
بكعب الصبر الرفيع
وأنوثة صادفتني
انتظر ما تبقى
من العشب..
القلب يقبض على جمرة الغناء
اوراقٌ تتساقط قبلَ أوان الاصفرار
البراعم تحترق
والرحيق..
أيتها الصدفة
الأولاد دائما يكبرون
والحب لن ينتهي
كتبت هذه القصيدة كترنيمة حزينة , تتشبث بالصبر كما تتشبث الشجرة بالأرض ، فالجذور التي تمتد عميقاً في التراب تجعل الأغصان تتمدد بالأمل كأنها اكف الرجاء ، وهنا سندرك معنى التناغم في أن يتحول هذا الحزن في ذات اللحظة التي وجد فيها الى أمل وهذه هي القيمة الجمالية التي تنطوي على مفهوم رائع للإبداع، وهذاما سوف ينمو و يشع و ينبعث من نفوسنا، ونحن ندرك هذا الجمال ,فالكلمات التي مضغت الحزن أخرجته إلى ما يقابله من أمل.
والناظر الى شاعرية الشاعرة أمال ابراهيم عبر ديوانها ( الباب الخلفي للنهار )سيجد أن الذائقة الشعرية لديها تعبر عن بعدٍ جمالي ومعرفي يكشف عن ميولها الإبداعية الى الابتكار والتجديد, و سيجد كلماتها مشرقة وعميقة وقوية تحاكي زمانهابطريقة باهرة مؤكدة وجودها لأقصىاتجاهها وهي تتدفق نحو أعماق الروح متحررة تماماً من الوهم و المثالية اللامعة, تبحث عن حالات الانبهار بإيقاع داخلي متناسق ومتناغم بسلاسة مع الإيقاع الخارجي حيث يكون الشكل تجلياً بارعاً للمضمون.