خطاب الحب .. برؤية انثوية

د. أحمد جارالله ياسين
نصوص سهى الطائي في مجموعة ” استأنفك سؤالا” أشبه بخطاب حب طويل واحد ، لكنه ينهض في كل نص على تفاصيل وجدانية مختلفة ، تتموّج دراميا متصارعة ما بين الوصل والهجر ، الحضور والغياب ، الشوق والهجران ، الهدوء والصخب ، الهدنة والاقتتال ، وأحيانا النص الوحد يكتنز بأكثر من شعور وحالة من الحالات السابقة مما يمنح الخطاب فاعلية نفسية متجددة ومتغيرة للذات الشاعرة التي تبوح ، وفاعلية فنية أيضا في التنويع بتقنياته البلاغية التي كانت توفر للتجربة التعبير الرمزي بدل البوح المباشر ، التجربة التي وصلت لحظة اشتراك الجانب الفني منها في المعاناة :
(على ضفافِ الحروفِ المنهكةِ ليلاً
غادرتُ سفنهُ دونَ عودةٍ)
ويبدو أنه خطاب معاناة كبيرة جدا، وحرائق نفسية محتدمة، حد وصفه بلاغيا بجهنم:
(حبُّك خطيئتي الكبيرةِ..
التي أدخلتني جهنمُ الحبِّ )
مع ذلك يبقى الحب والمحبوب معا محطة الرجاء التي تتطلع إليها الذات للفوز ولو بلحظات تجمعها مع الآخر:
(سأترجَّى خطواتِ الرحيلِ برهةً
لأتعكّزَ بأخرِ دقيقةٍ تحتوينا)
ويستعين الخطاب في أكثر من نص باللون للتعبير عن البعد النفسي والتشكيلي في رسم الصورة البلاغية، وهي تتمظهر بالكلمات المغطسة بالحيرة:
(كثبانُ حيرةٍ تعجُّ بالاصفرارِ
لتهطلَ على فيافي الروحِ)
وفي صورة أخرى ترتسم الألوان ما بين العتمة والسواد من جهة، والضوء والبياض من جهة أخرى للتعبير عن بزوغ الأمل في ثنايا التجربة مهما كان الظلام مهيمنا:
(وتنبتُ على ضفافِ العتمةِ
حدائقُ التوليبِ الأبيضِ)
ولاشك أن أي خطاب عاطفي من هذا النوع الرومانسي سيجد في معجم الطبيعة ملجأ له في استلال المفردات والصور والتماهي معها لخوض التجربة والصبر على تقلباتها ، فالطبيعة مرجع يمتاز بالصفاء والنقاء البدائيين اللذين لم يلوثهما الانسان بتقنيات الحضارة والتغيير والتكنلوجيا ، ومن هنا تجد الذات في الطبيعة مرجعا أنيسا ومألوفا لتبوح له بما في أعماقها من فرح أو شجن :
(يقتربُ الصبحُ بهدوءِ الحيارى
ليُلقي شروقَ السماءِ على مقلتيكَ
وتتناغمُ زقزقةُ العصافيرِ.. نوتةً تتراقصُ
أنغامُها بخشوعٍ حذرٍ !
أكتفتْ بقولها:
إنكَ سعفةٌ هزَّتها ريحي..)
لقد اعتمدت النصوص على مرجعيات مختلفة أخرى في تشكيل نسيج لغتها الشعرية ومن أهم هذه المراجع اللغة القرآنية التي تركت أثرها في كثير من المواضع والصور منها النماذج الآتية :
(كنتُ على شفا حفرةٍ منَ الجهلِ) / (هكذا كالسماءِ أَنا دونَ عمدٍ)
( إنكَ سعفةٌ هزَّتها ريحي..
. لتسَّاقطَ عليَّ رطباً منْ إشتهاء)
(سأكون جنّتكَ .. والباقياتُ جحيمٌ !!)
( كُلُّنا كالشمسِ..
نَغربُ كُلَّ يَومٍ !!
لكنْ..
هُناكَ منْ يَغربُ في عينٍ حمئةٍ !!)
( لتسَّاقطَ عليَّ رطباً منْ اشتهاء).
(قال:
هذا فِراقٌ بيني وبينكَ
أَيّما الأجلين قَضيت.. ؟!)
ولعل اتكاء الخطاب العاطفي هنا في جانب من مرتكزاته الفكرية والشعورية على هذه المرجعية الدينية هو ما جعله خطابا ذا اتجاه عذري نقي في التعبير عن المشاعر والمواقف ، سواء في تغزله أو عتابه أو بوحه . ومن جهة أخرى فإن كبت الجانب الحسي من هذه التجربة وقمعه من الظهور فيها أدى إلى تصاعد الصراع الدرامي في أعماق الذات وتأرجحها بين صور عديدة كل طرف منها يخالف الآخر على سبيل التضاد البلاغي والنفسي بين البعد والقرب ، والشمس والظلام مثلا :
قربكَ وجعٌ
بعدكَ أذى
أشعةُ الشمسِ أفلتْ
وخيمُ بواحاتِ صدري الظلامُ
بينما تكون معادلة القلة والكثرة منطلق تشكيل المقطع الآخر في التعبير عن طبيعة العلاقة المرتبكة بين الطرفين :
بَيْنِيْ وَبَيْنُكَ عُمْرٌ مِنَ العِشْقِ
وَقَلِيْلٌ مِنْ حُبٍّ مُصْطَنَعٍ
وَكَثِيْرٌ مِنْ مَشاعِرٍ صادِقَةٍ
وللحفاظ على الجانب الايقاعي للغة تنحو النصوص أحيانا كثيرة باتجاه تأثيث بنيتها بالتقفية الداخلية والخارجية من باب ( السجع ) لخلق جو موسيقي في النصوص يسهم في التوصيل الجمالي لرسالتها الفنية والتأثير في المتلقي ، كما نجد ذلك في الكلمات المتماثلة بنهايات إيقاعية واحدة ( آذار / جلنار / المحتار / خيار/ باختصار ) :
على ضفافِ أذارَ
نبتَ جلَّنارُ القلبِ ..!
غفى على جنبيِّهِ
نيسانُ ..!
ينتظرُ ولادةَ يومهِ الأولِ
بانقضاءِ ألمِ أذارَ المحتارِ ..
هلْ لنا بعدَ انقضاِء الياسمينِ
منْ خيارٍ ..؟
هلْ لكَ أنْ تروي عثراتِ قلبكَ
في لحظاتِ صمتِ الغيومِ
ولو باختصارٍ ..!
وفي لحظات ربما هي جزء من خاتمة العلاقة تلجأ الذات الى الحكمة في استنتاجاتها لخلاصات موجزة مما مرت به ، فنقرأ لها :
(لا تَكُن إِنتهازياً إِلا في الحصولِ على الفُرصِ ..
الفُرصُ الضَائعة كُلفتها النَدم
ثُمَّ النَدم ..)
أو في مقطع اخر نقرا الحكمة الاتية :
(الوفاةُ الصغرى
ليسَ النومُ الذي نختارُ !!
هو ذاكَ التعلّقُ الذي لا نختاره ُ
ويختارُنا !!)
وفي نص وحيد تبتعد الذات عن عالمها الخاص وتجربتها العاطفية النرجسية لكي تتجه صوب الحب وهو يتجلى بمفهومه العام في وطنها العراق مما يستدعي حضور رموزه التاريخية ( النخلة/ سمير اميس / شهرزاد / السومرية ) للتعبير عن مكانته العالية دوما التي لا تتغير مهما اشتدت به المحن والازمات :
أنا العراق
أنا نبعُ الحضارةِ
أنا خضرةُ الأشجارِ
أنا النخلةُ
مرفوعةُ الهامةِ
نحو السماءِ طريقُها
وعيناها محدّقةٌ بالآفاقِ …
أنا شهرزادُ
وسميرأميسٍ
أنا ملكةُ الجنائنِ
معلَّقةٌ بالروحِ بغدادها
راكزةٌ في الأحداقِ …
أنا سومريةُ اللونِ
وأخير نقول إن المبدعة سهى الطائي في هذه النصوص أعادتنا بحنين إلى الخطاب الرومانسي العذري الذي شغل مساحة واسعة من لغة التواصل العاطفي الأدبي بين الرجل والمرأة، وهي مغامرة جميلة بنقائها وصفائها الشعوري والوجداني وهدوئها التأملي الذي بتنا نفتقر إليه في حياتنا اليومية الصاخبة والسريعة في ظل حضارة الآلات والتقنيات الالكترونية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة