د. عبدالكريم المصطفاوي
طرحت أفكارا وأسئلة فلسفية و قيمية وأخلاقية..نقلت أحداثا واقعية برؤى وصور سريالية..
عتبة العنوان “أمواج سود”
١-هو عنوان مثير؛ يترك القارئ يتساءل: هل هناك أمواج سود؟ هل هو إعصار، يوم القيامة؛ هل هو مطر أسود، حمم براكين؟
ما العلاقة بين السواد والأمواج؟
٢- أما في المتن، فيذكر الكاتب” حفلة الأمواج السوداء” وهنا يتغير المعنى! السوداء تعود للحفلة وليست للامواج..
ومن خلال الدلالة اللغوية للعنوان يمكن أن نستخلص الآتي:
● أن عنوان القصة هو عنوان گشتالتي؛ بمعنى عنوان يغطي كل ما في القصة الصريح منها والمضمر. بينما العنوان الفرعي هو عنوان يخص حدثا واحدًا مرتبطا بالدلالة الكلية للقصة.
ثيمة القصة: ثنائية الحرب والسلام؛ وثنائية الحياة والموت.
اللغة:
يشير باختين إلى أن اللغة هي إحدى انساق السرد؛ وهذا ما بنى عليه القاص عبد علي اليوسفي قصة الأمواج السود؛ على الرغم من أنه لم يستخدم الأسلوب البلاغي من حيث الاستعارات والتشبيه، وهو بهذا يتماهي إلى حد كبير مع أسلوب فؤاد التكرلي، سيما في حديث الأشجار! وأرى أن أجواء القصة المليئة بمشاهدة الحرب والقتل والعنف المؤطرة بالصخب والرقص والموسيقى والسيقان العارية، هذه الصورة السريالية لم تكن بحاجة ملحة إلى تلك البلاغة التي ستبدو فيما لو استخدمت تزويقا فائضا عن الحاجة!
التداعي الحر:
اعتمد الكاتب أسلوب المونولوج الداخلي أو التداعي الحر بحسب فرويد؛ سيما لشخصية الرجل الضخم! وقد أشار إليه الكاتب بشكل صريح على لسان البطل! الذي يمثل أحد المساهمين في مجازر القتل والدمار التي لحقت بالمدينة. كان يبدو عليه الاضطراب النفسي أكثر من الآخرين، فهو الآن في حالة وعي وتقييم لما فعله من قتل طيلة فترة الحرب وأحداث العنف السابقة، لكن الغريب أن حالة الوعي تتفجر لديه عندما ” يكرع كؤوس الخمر”.
● القصة كتبت بطريقة احترافية عالية، وقد قسمت في نصفها الثاني إلى مشاهد؛ مشهد صغير وستة مشاهد أخرى، لكنها لم تكن مشاهد منفصلة أو بواجهات مختلفة؛ بل أن مفتاح السرد كان يستدعي القيام بذلك، وهي تقنية مبتكرة فرضتها أحداث القصة.
الرمزية:
حفلت القصة برمزية عالية؛ من خلال المعنى العام للقصة…
● وكذلك من خلال تكرار ذكر” الفقاعات المتفجرة” لكؤوس الشراب، فقد ذكرت أكثر من ست مرات، وعشر مرات لكلمة “فقاعات” فقط، إذ كانت تعبر عن حالة الغليان والحنق الكبير لجموع الجماهير ضد المجرمين والقتلة الذين دمروا المدينة واستباحوا حرمتها.
وتعبر كذلك عن حالة التوتر والخوف والقلق الذي كان يعاني منها الرجل الضخم.
● رمزية اللون الأسود..
من خلال الطيور السود والورد الأسود والخيول السود والملابس السوداء التي ارتدتها النساء والفتيات والفتيان… والتي عبرت عن الحالة السوداوية والحزن والظلام المهيمنة على المجتمع.
● توظيف قصة الصخب والعنف لفوكنر
وظف الكاتب رواية الصخب والعنف لفوكنر، وأشار لها صراحة من خلال حالة التداعي الحر لشخصية الرجل الضخم، وهو بهذا قد وظفها من حيث الأسلوب، سيما في تقنية استعادة الماضي وجعله متغيرا مهما في القصة، متحكما بالحاضر، وكأن الكاتب هنا يومئ إلى أمر جديد وهو ما يمكن أن أدعوه بالأمانة السردية على غرار الأمانة العلمية، وكأنه يستحضر الصخب والعنف مصدرا ملهما فرض نفسه بقوة في هذا النص.
التقنية..
مشهد صغير: ” اقتباس”
[ ما أن رفعت رأسي حتى أمسكت أحدى الراقصات بدمية مصممة على هيئة رجل، من شعره وسحبته إلى وسط المنصة ثم سحبت سكيناً من غمدها، كانت تنوي ذبحه فصاح الجمهور المحتشد بالقاعة مستنكراً المشهد التمثيلي ((لا ..لا ..لا))
أعادت السكين إلى غمدها. وأخرجت مسدساً كاتماً للصوت فصاح الجمهور مرة أخرى مستنكراً المشهد فركلت الدمية بقدمها إلى زاوية المنصة.]
التعليق:
– هذا المشهد يمكن أن يؤول إلى أمرين:
الأول: صفة الانتقام لدى الفتاة تفسر مدى الغضب والألم الكبير الذي تركته الأحداث التي سبقت انتهاء العنف والقتال في نفوس الناس، ومهم هذه الفتاة.
الثاني: له دلالة ومعنى سايكولوجي، فكما معروف أن العنف ومشاهد العنف يمكن أن تنتقل بالعدوى من خلال التعلم، وقد أشارت العديد من الدراسات العلمية إلى ذلك، من قبيل الإدمان على مشاهدة الأفلام، فكيف إذا صار واقعا حقيقيا، وهذا ما حصل للفتاة والكثير من أفراد مجتمعها.
شخصيات القصة:
● لم تحمل شخصيات القصة أسماء واضحة، بل صفات معينة تعرفهم بها! وربما هو في هذا يريد لها أن تكون عالمية الدلالة والمعنى.. وليس حالة خاصة وحدثا ما مر به بلد أو مدينة معينة.
● وهكذا فعل مع المكان والزمان..مثلما فعل مع أسماء الشخصيات! فالعنف والقتل لا مكان له ولا زمان.. منذ أن وطأ الإنسان هذه الأرض.
● بدا أن أغلب الشخصيات كانت تعيش صراعات داخلية شديدة، غير أنها لم تكن تمتلك طريقة لمقاومتها، سوى تعاطي الكحول.
١- نرى الرجل الضخم ..أحد أبطال القصة والشخصية المرورية فيها والتي دارت عليها أحداث القصة، وهو مجرم قاتل؛ وجدناه بعد الهزيمة يتحول إلى إنسان رقيق، عطوف، نادم على ما فعله؛ يبحث عن النجاة؛ وهو بهذا يقاسي آلام الصراع بين ما ارتكبه من جرائم وشعوره بالندم وبين محاولته طلب العفو والمغفرة والرجاء بعدم قتله جراء أفعاله!
٢- البطل؛ السارد العليم، هو كاتب وروائي، شخصية مثقفة وحساسة، وفي الوقت نفسه هو أحد ضحايا العنف والحرب، نراه متسامح جدا، بل أنه يعرض على القاتل الحماية! وللوهلة الأولى تخيلت أن هذا البطل هو نيلسون مانديلا؛ لولا أن وجوه النساء اللواتي ظهرن في المشاهد كانت بيضاء.
٣-الشاب المهووس بالحفل: بدت شخصيته هامشية متطفلة، فلم نر أثرا لها في الأحداث، لكن المتفحص يجدا أنها تمثل رمزية عالية، فهو ممثل عن جيل الشباب الذين لم يعيشوا بوعي كبير حالة الحرب، إذ كانوا اطفالا صغار، ينظرون للحرب كاللعبة، لذا نراه متحمس جدا لفكرة الحفلة وكونه أحد الأعضاء المنظمين لهذا الكرنفال، وفرحه وحماسته بالمشاهد الممسرحة تفوق إحساس الآخرين بالأوقات العصبية التي عاشوها والتي سيشاهدون جزءا منها في هذا الحفل الأسود.
نهاية القصة..
النهاية الغريبة للقصة، تركها الكاتب تسير جنبا إلى جنب مع سريالية الأحداث وغرائبيتها…
إذ بدت غامضة بعض الشيء، فالبطل هذه الشخصية الشفافة الذي كان يكتب رواية، ربما عما مر به وطنه من محنة عظيمة، يستسلم في النهاية ويشارك الرجل المجرم النادم شرابه؛ إذ يقول:
– فقمت بكرع ما تبقى وغامت في عيني صور النساء والخيول والطيور!.
ثم يضطجع نائمًا بجواره!
هنا يطرح أكثر من سؤال؛ لا ندري، هل يريد أن يرسل الكاتب رسالة إلى أننا يجب أن ننسى ونغفر، حتى لمن قتلنا، وحتى لو كان هذا، فهل نصل إلى حالة الاصطفاف مع من قتل والنوم بأمان الله بجانبه، أم أنه أراد أن يقول:
أن قدرنا الأبدي والأزلي أن نقتل ونذبح، وأن الاقتصاص لن يغير من الأمر شيئًا! فالقتل مستمر ولا نهاية له!
بهذا التأويل وبهذا الوضع يجعل الكاتب، القارئ يعيش حالة من التناقض الوجداني والفكري المستمر للوصول إلى حل لهذا التناقض.
في النهاية نرى أن اليوسفي استخدم أسلوبا يمزج بين أسلوب السرد القصصي وأسلوب الكتابة المسرحي وقد نجح فيه بشكل يبعث على السرور.