الخواص الجمالية والسمات الفكرية والأبعاد الدلالية في “هذيان محموم”

علوان السلمان

الخطاب السردي بكل مكوناته وبنياته حظي باهتمام النقاد فمنهم من نظر له من منظور السردية الوظيفية اللسانية في مستوياتها التركيبية.. ومنهم من اهتم بالسردية الدلالية مع الإحاطة ببنائه الفني وبعده الفكري، فاكتشفوا أن السرد لحظات مكثفة ودفقات تتشكل في مشهدية تجمعها وحدة موضوعية محتضنة العلاقات الداخلية بين الأبنية الجزئية التي تشكل البنية الكلية للنص انطلاقا من منظور تخييلي وضمن مسار سردي واقعي وتصور جمالي..
والرواية القصيرة جداً الفن الأدبي الذي شهد جذباً واهتماماً وتطبيقاً ودراسة تحليلية ونقدية للكشف عن عوالمه الإبداعية، كونه نتاج الحركة التجريبية لمسار السرد تاريخياً والحصيلة الإبداعية المسايرة للتـطور الحضاري، والمتسمة بخصائص حققت وجودها كالإيجاز والاختزال وكثافة السرد..
و(هذيان محموم) النص الروائي القصير جداً الذي نسجت عوالمه أنامل منتجه ومنظره الروائي حميد الحريزي، وأسهمت دار رؤى للطباعة والنشر في نشره وانتشاره في عام 2024.. كون مستوى بنية خطابها السّرديّ الذي صيغت وفقه فنيّا ودلاليّا يكشف عن خاصيتها الجمالية وتحديد سماتها الفكرية وأبعادها الدلالية.. إضافة إلى اعتماد منتجها تقنيات فنية (أزمنة/شخوص/أحداث/حوار/بناء لغوي).. فضلاً عن اعتماده شخصية الراوي الضمني المقترن بالراوي العليم والذي يشكل الشخصية الاجتماعية التي تحظى بأهمية استثنائية في كل مفاصل المكان والزمان بما ينطوي عليه من حضور بالغ الخطورة في نسيج البنية الاجتماعية..
عجزت يده عن هش ذبابة أثارت طنيناً مزعجاً بالقرب من أذنه اليمنى .. أصابه الهلع والخوف وهو يرى قطيعاً من الذئاب مكشرة الأنياب تحاول أن تداهم غرفته بعد أن نجحت في دخول الدار قفزاً، صرخ بأعلى صوته بوجه قطيع الذئاب ولكن صراخه لم يثر اهتمام حتى الذبابة التي ازداد طنينها .. استعاد توازنه ليهزأ من نفسه، وأسئلته البلهاء حول سن الذيب في حين يقترب الذئب منه رويداً رويداً وتزداد عيونه احمرارا كأضوية (البك لايت) لسيارة تسير في شارع مظلم، اقترب الذئب متشمماً قدميه العاريتين، بحركة لا إرادية رفسه بكل قوة الخوف الذي هيمن عليه فكانت رفسة مؤلمة في خاصرة زوجه التي نهضت فزعة مرعوبة تزداد صراخاً بوجهه هازئة من حركاته العشوائية ومحاولاته التمسك بها كمن يلوذ بحضن أمه هرباً من وحش كاسر .. بعثت نداء الاستغاثة إلى كل أفراد العائلة الأولاد والبنات وحتى الأطفال عسى أن يساعدوها على ما حل بوالدهم وتصرفاته غير المفهومة.) ص21 –ص22
فخطاب المنتج (السارد) خطاب الذات ومناخاتها للتعويض عن الغربة التي يحس بها ومن ثم إيجاد حالة من التوازن بينه والعالم المحيط به .. فكانت رؤيته السردية تتصل بطبيعة نفسه وتكوينه الفكري والروحي وظروف حياته والواقع .. باعتماده ضمير المخاطب وانزياح لغته عن المألوف مع وجود الإيقاع والعاطفة…
فالنص على الرغم من عفويته السردية في طرح الحدث الحلمي ومشهديته عبر سلسلة من الوحدات السردية، إلا أنه يحمل في باطنيته الرمزية رؤية فكرية وثقافية وإيديولوجية، تجتهد في التعبير عن موقف فكري وثقافي وإيديولوجي يتمثّله المنتج من أجل طرح وجهة نظر تتعلّق بالمكان والزمن والحدث والتاريخ والتشكيل الجغرافي والشخصيات، وقد اختار شخصية حامد لتعبّر أفضل تعبير عن حقيقة الفكرة التي تعرّي السلطة والطبيعة والإنسان في شكله الرمزي (الذئب) فضلاً على وصف الحساسية العاطفية كما في قوله: (بعد إنهاء كلمته أول من صفق بقوة له الحاخام والبابا والخليفة والقيصر والدكتاتور حيث كانوا ينصتون بانتباه شديد إلى الكلمة) ص84 . إضافة إلى ذلك توظيفه للرمز الذي هو (أداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة .. لغرض تصعيد التكنيك السردي) .. إذ فيه ترتفع التجربة إلى حالة من الشمول والصورة فيه تتحول إلى رؤيا..
((انتابته قشعريرة برد شعر بهزة عنيفة لجسده محاولا النهوض (اسم الله اسم الله القرآن) .. عيوني حامد ماذا أصابك؟..ماذا تريد؟ لماذا تصرخ؟ .. فتح حامد عينيه فشاهد تجمع عائلته حوله زوجته وأولاده وأحد المعممين يتلو عند رأسه آي من الذكر الحكيم ورائحة البخور تفوح في فضاء الغرفة ويده ورقبته مسوّرة بشريط أخضر(علك) داعين له بالصحة والسلامة والخلاص من الحمى الشديدة التي أصابته بشبه غيبوبة وهذيان غير مفهوم طيلة ثلاثة أيام متوالية..) ص85..
فالنص يحيل إلى تجربة نفسية يحقق وجودها منتج واع في جمل سردية مكثفة بألفاظ موحية مع ابتعاد عن الوصفية الاستطرادية .. وقيامها على ثنائيات ضدية (إحباط/ارتياح) وانزياح لفظي ببنية تنفتح عوالمها على جماليات سردية … إضافة إلى أنسنته للجمادات للتعبير عن مشاعره تشخيصيا وتعبيريا .. كونها تعد بمثابة عوامل سيميائية فاعلة في مسار السرد بأبعادها المرجعية والرمزية المعمقة للمعنى .. إضافة إلى انه استمد جماليته من بنائه المتماسك بتكثيف عباراته ومجازاتها وموجودات الواقع والذاكرة التاريخية والبنية الذاتية النابعة من الرؤيا المحققة للصورة المرتبطة بالتجربة .. مع اعتماد المفارقة لتحقيق الدهشة الشعرية بتوظيف الفلكلور الشعبي الذي يستخدمه المنتج كعنصر أساس من عناصر بناء النص فيعطيه طعماً خاصاً ورائحة شعبية .. كي يثبت انتمائه إلى وسطه الاجتماعي: (خروجك قبل ثلاثة أيام على الدراجة إلى الشارع ودرجة الحرارة أكثر من55 م، لتجلب الثلج بسبب انقطاع التيار الكهربائي كان خروجاً انتحارياً، فما أن عدت حتى سقطت مغمياً عليك، ولولا نذوري ودعواتي وبيرغ العلوية في رقبتك لكنت في خبر كان الآن يا حبيبي..) ص86..
ففضاء التخييل السردي يشتغل متنامياً، والسرد الواقعي من أجل ملامسة جوهر اللحظة التي صاغها المنتج ببراعة فنية اعتمدت تقنيات سردية تتناسب وطبيعة الحدث بتوظيف لغة متميزة بكثافتها وقدرتها التعبيرية…
من كل هذا نستنتج أن المنتج (السارد) يستعين بنوع من التكثيف والاقتصاد اللغوي واللحظات المتسارعة المشحونة بالألم مع درامية دينامية تميزت بدفقاتها الشعورية التي تقوم على فكرة حدثية وبناء شكلي يتسم بالاختزال الجملي الذي يحمل العمق الدلالي الكامن وراء دلالات رامزة..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة