أزمة القانون المدني العراقي

أ . د . حيدر وهاب عبود* 

يحظى القانون المدني بأهمية كبرى على مستوى فروع القانون، فهو دستور المعاملات الخاصة، وشريعتها العامة، والمرجع الذي يعود إليه القضاء والفقه إذا تعذر وجود نص خاص يحكم المسألة المطروحة أمامهما. والقانون المدني بهذه المثابة يعد إطارا قانونيا يضبط دقائق الحياة المدنية ويرسم نسيجها وفق رؤية حضارية قائمة على تنظيم العلاقات بين الأفراد أو بينهم وبين الدولة عندما تنزع رداء السيادة وتتعامل معهم على قدم المساواة. واستنادا لتلك الأهمية فقد حرصت الدولة العراقية منذ بواكير نشأتها الأولى على تقنين الأحكام المدنية عن طريق تشكيل لجان متعدد كان آخرها لجنة مكونة من جهابذة القانون وأساطينه مثل: الدكتور عبد الرزاق احمد السنهوري، والسيد نوري القاضي، والسيد حسن سامي تتار، والسيد انطوان شماس، والسيد عبد الجبار التكرلي، والسيد محمد حسن كبة رحمهم الله جميعا.

لقد حاولت اللجنة المذكورة، كما ورد في الاسباب الموجبة للقانون، المزاوجة والتناغم بين مصادر شتى من القواعد القانونية يتقدمها الفقه الاسلامي، و مجلة الأحكام العدلية ( المستقاة أغلب احكامها من كتاب مرشد الحيران ) ، ومجموعة من القوانين العثمانية، إضافة إلى التأثر بالأحكام الواردة في مشروع القانون المدني المصري، و صدر القانون بالفعل في 8 / 9 / 1951 بعد عمل دام ثلاث سنوات من قبل لجنة اعداد المشروع .

وعلى الرغم من أن جمع أحكام القانون المدني بين دفتي تقنين واحد يعد انجازا تشريعيا خليقا بالثناء والاطراء، إلا أن ما يؤخذ على القانون المذكور أن صياغة الكثير من مواده خالفت ما هو معتاد من أصول شكلية في العلوم القانونية من قبيل إفراغ المشرع جهده في سرد الامثلة والتطبيقات العملية التي لم يكن محلها المناسب متن القانون نفسه، بل كان بالإمكان إدراجها في مذكرته التفسيرية، أو في أعماله التحضيرية، أو في أضعف الايمان ترك تلك الأمثلة لشراح القانون أنفسهم. من ذلك: بيع البقرة الحلوب ( المادة / 117/ 2 ) ، والتقاط الدجاجة للؤلؤة ساقطة ( المادة 242 / 2 ) ، واحتراق ثياب شخص بفعل شرارة طائرة من دكان حداد ( المادة 227 / 2 ) ، والضرر الحادث من الكلب العقور والثور النطوح ( المادة 222 / 1 ) . والاستغناء عن ضرب تلك الأمثلة كان ممكنا مادام أن القاعدة القانونية تتسم بصفتي العموم والتجريد مما يؤهلها، وإن كانت متناهية في أن تحكم وقائع غير متناهية.

عموما فإن رغبة المشرع العارمة بذكر الأمثلة لم تقف عند هذا الحد بل تجاوزته بتكرار الأحكام القانونية في أكثر من مادة واحدة. والمثل الذي يذكر هنا أن المادة ( 116 ) نصت بأن : ( الزوج ذو شوكة على زوجته ، فإذا أكرهها بالضرب مثلا أو منعها عن أهلها لتهب له مهرها فوهبته له لا تنفذ الهبة ولا تبرأ ذمته من المهر ) . وهذا النص يعد تزيدا لا مبرر له، لأن الحكم الوارد فيه سبق للمشرع ايراده في المادة ( 115 ) من القانون التي نصت بأن:  ( من اكره أكراها معتبرا بأحد نوعي الإكراه على إبرام عقد لا ينفذ عقده ) . ومن قبيل التكرار في الالفاظ والعبارات كذلك أن المشرع عدّ الضرب المبرح والايذاء الشديد إكراها مُلجئا ( المادة 112 / 2 ) مع أن عبارة الايذاء الشديد تستغرق الضرب المبرح ، وكذلك تكرار الحكم المتضمن أن الاكراه يختلف باختلاف أحوال الناس في ثلاث مواد متتالية هي : المواد  ( 112 و 113 و114 ) .

علاوة على ما تقدم يلاحظ عدم متابعة القانون المدني للتطورات الدستورية التي شهدها العراق لا سيما بعد سن دستور 2005، وتغير شكل الدولة من بسيطة الى اتحادية. فلم تعد الاشخاص المعنوية مقتصرة على الالوية ( المحافظات ) والبلديات والقرى حسب ما ورد في المادة( 47 / ج ) بل أصبح النظام الاتحادي يتكون ، كما تنص المادة ( 116) من الدستور المذكور ، من : عاصمة ، واقاليم ، ومحافظات لا مركزية ، وإدارات محلية .

خلاصة ما تقدم، أن الاسهاب والاطناب في ذكر الأمثلة تسبب بتضخم مواد القانون المدني التي بلغت ( 1382 ) مادة مما خلق صعوبة وعنتا لأساتذة الجامعات في تدريسها، و مشقة لطلبة كلية القانون في فهمها واستيعابها، لذلك تبدو الحاجة ماسة إلى تهذيب مواد القانون المدني الحالي وتطهيرها من شوائب التكرار والاسهاب التشريعي مع تحديثها ،لأن القانون مثله في ذلك مثل الكائن الحي ينمو ويتطور ، ولا يتحقق  التطور ما لم يواكب القانون المدني المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شهدها العراق بعد مرور ما يناهز 44 سنة ميلادية على تشريع القانون .

 

* كلية القانون – الجامعة المستنصرية

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة