سمير رمان
فرانز كافكا من أبرز الأدباء الألمان في مجالي القصة القصيرة والرواية، هو التشيكي رائد الكتابة الكابوسية، التي توصف بالواقعية العجائبية، حيث يلعب دور البطولة في قصصه أبطال غريبو الأطوار يتعرضون إلى مواقف سوريالية. يرجح أن مردّ ذلك هي المواضيع النفسية التي تناولتها أعماله، مثل الاغتراب الاجتماعي، والشعور بالذنب، والعبثية، عمومًا، حتى شاع في الوسط الأدبي مصطلح الكافكاوية، في إشارة إلى الكتابة الحداثية المتمثلة بالسوداوية والعبثية. وأكثر أعمال كافكا شهرة هي روايات: «المسخ»، و»المحاكمة»، و»القلعة».
بالنسبة للمراقب عن كثب، يظلّ عالم كافكا عالمًا واهمًا، مُبتدعًا. لكننا كلما اقتربنا لندقق في شخصيةٍ، أو مسرحيةٍ، كلما بدأ يتضح أنّها تتحول إلى ما يشبه وصفًا وثائقيًا. لم يكن كافكا يومًا يحتاج إلى اختلاق القصص الحقيقية، فهذه نكتة متغطرسة: كافكا في الأساس، ونظرًا إلى طبيعته نفسها، هو حكاية حقيقية في حدّ ذاته.
لم تتأت براعة كافكا وحذقه العظيمان، نتيجةَ إبداعه مؤلفاتٍ أدبيةٍ، بل لأنّه أبدع توصيفًا فنيًا للعالم الكليّ، العالم الذي يخضع في وقتٍ واحدٍ إلى قوانين إنجيل العهد القديم، وللميكانيكا الكلاسيكية، ولقوانين التطور الطبيعي التي صاغها داروين، وأيضًا إلى قوانين الكوارث المقدّرة، التي نتلمّسها دائمًا حتى في أروع المناظر الطبيعية. يتموّج المنظر الطبيعي، ويتداعى المنظر الداخلي، وتجتذب تروس الكون الإنسان تدريجيًّا إلى داخلها: الإصبع أولًا، ثمّ اليد، ومن ثمّ يضيع الإنسان كلّه بين تلك التروس. إنسان كافكا، إنسانٌ مركبٌ، عمومًا، من أماكن هشّة غير محصنة، وهو عرضةٌ لمئات الصدمات المحتملة التي تتربص به في حياته. على المرء عندما يقوم بتوصيف وتقييم كلّ هذا أن يرتِّب لقاءً بين الإنسان والعالم، وأيّ لقاء! إنّه لقاء آلة شمولية صلدة مع عاملٍ من لحمٍ ودمٍ وأعصاب. وعليه، من ثمّ، متابعة التشوهات والإصابات التي ستتعرض لها مختلف أجزاء الجسد والروح، ومراقبة التراتبية التي ستحصل وفقها.
كافكا كان يكسب لقمة عيشه من العمل نهارًا عميلًا في شركة تأمين، ولهذا فقد كان عليه أن يختلس من نومه بعض الوقت ليكتب: كان ذلك يحدث ليلة بعد ليلة، ويومًا بعد يوم، وعامًا بعد عام. يقول العُرف الأدبي إنّ الظروف الشخصية هي التي تحفّز في روح الكاتب مشاعر التعاطف وفقًا لنمطٍ رومانسي محدّد: فعادةً ما يكون المؤلف الفقير مزدوج الشخصية، يكسب عيشه عبر عملٍ غير فنيٍّ نهارًا، وفي الليل تحلّ عليه آلهة الإبداع فيبدع مؤلفاتٍ خالدة.
كان كافكا موظف تأمين جيد، كانت حياته سلسلة رحلات تتعلق بـ»قضايا تأمينية» تضمنت سلسلة لا نهاية لها من مشاهد مرعبة: أيادٍ مبتورة، ورؤوس مهشّمة، مناجم منهارة، وأجساد سحقتها تحت حمولة شاحنة سقطت من علٍ. تظهر المسودات والرسوم أنّ كافكا كان يجرّد كل كلمة تضمنتها نصوصه من كلّ ما هو تعبيري، فلا تمييع، ولا تلاوين، في نصوصه، على الإطلاق. جُمله جافّة، شفافة وعديمة اللون تمامًا. يمكن لأيٍّ من المشككين في أنّ هذا المجهود جاء هنا عن سابق إصرارٍ وترصّد أن يقرأ رسائله على أنّها «أدب» حقًا، فهي مجازية من حيث التعبير، واضحة بشكلٍ صارخ من حيث الشكل، تنبض بالحياة، وذات حبكة آسرة، مفعمة بالعاطفة. إنّها قصصٌ رواها شخصٌ حيٌّ ملموس، قصص كتبها بشرط، ألا وهو أن يظلّ واحدًا منهم. أمّا مرامي نصوصه فترمي إلى هدفٍ مختلف تمامًا.
عند إمعان النظر في طريقة تعامل كافكا مع العالم، يمكننا القول إنّه لم يكن مؤلِّفًا بقدر ما كان مبدعًا مطوّرًا، يبتكر سيناريوهات تُولِّد كوارث بكلّ عواقبها وتفاصيلها. في أكوان كافكا، نجد الشخصية الرئيسية عبارة عن شخص عادي يتمتع على الدوام بخاصيّة واحدة: محكومٌ عليه بالفناء. بطل كافكا الخارق شخصٌ لا يبلغ هدفه أبدًا، ولا يحصل البتّة على إجابةٍ.
- عن ضفة ثالثة