نصير فليح
لعل مصطلحي ومفهومي “الثقافة” و”المثقف” هما الاكثر تداولا في الوسط الثقافي. وكثيرا ما يتحول الحوار أو الجدال في واقعنا الثقافي حول شخص معين، مثلا، هل هو مثقف أم لا، وتتباين الآراء، واذا استمر النقاش فإنه يقود إلى التساؤل بالتالي عن من هو “المثقف” وما هي “الثقافة” اصلا، وكيف نحددهما؟ وعلى أية معايير؟
كما يعرف القارئ المطّلِع هناك عشرات أو ربما مئات التعاريف للثقافة. لنأخذ أولا التعاريف السريعة التالية للثقافة كمنطلق لنا، ولنبدأ من ( = معجم أوكسفورد الفلسفي، 2016).
“طريقة حياة الناس، بما في ذلك اتجاهاتهم، قيمهم، معتقداتهم، فنونهم، علومهم، صيغ التلقي، وعادات الفكر والممارسات”. او حسب مصدر آخر ( = معجم أوكسفورد للنظرية النقدية ، 2010).
“الثقافة: منظومة معتقدات، ممارسات، شعائر، وتقاليد مشتركة بين مجموعة من الناس لهم على الاقل نقطة هوية مشتركة واحدة (كالعرق، الجنس، أو المواطنة).
أما ( = معجم أوكسفورد لعلم الاجتماع ،2014) فيقول:
عندما يستخدم علماء الاجتماع مصطلح “الثقافة” فإنهم يميلون إلى الحديث عن مفهوم اقل تحديدا من ذاك الموجود في الحديث اليومي للناس. في العلوم الاجتماعية، “الثقافة” هي كل ما يتم توصيله في المجتمع البشري اجتماعيا لا بايولوجيا، بينما الاستعمال الشائع ينزع للإشارة فقط إلى الفنون والآداب”.
وبخصوص المثقفين: (intellectuals) فلننطلق أيضاً من المعجم الأخير
“في المجتمعات الحديثة لا يشكل المثقفون جماعة محددة بوضوح. تقليديا، كان دور المثقف هو دور المفكر أو الباحث عن الحقيقة. ففي المجتمعات البسيطة قد يكونون الكهنة أو الشامان. أما في اوربا، من عصر النهضة إلى القرن التاسع عشر، فقد كان صانعو الثقافة العالية هم الفلاسفة، والمبتكرون العلميون في ازمانهم”. مبينا انّ الجماعات الألمعية من المثقفين مثل الذين شاركوا ديدرو في انتاج الموسوعة الفرنسية العظيمة غيروا التاريخ بالمعنى الحرفي عبر انتاجهم لأفكار ومعرفة جديدة في مجتمعاتهم.
ويقدم (جيرار ليكلرك) في كتابه (سوسيولوجيا المثقفين) تعاريف ممكنة اضافية للمثقف: “حدّدَ ليبست (1959) المثقفين بوصفهم “من يبدع ويوزع ويمارس الثقافة، أي العالم الرمزي الخاص بالإنسانية والذي يتضمن الفن والعلم والدين”. أما كوزر بدوره، فقد حدد المثقفين بوصفهم الافراد “الذين يُعنَون بالقيم المركزية في المجتمع”، أو انهم من يولي اهتمامه للعالم الرمزي الذي تؤسسه الثقافة”.
وهو يشير إلى انّ البذرة الاولى لظاهرة المثقف يمكن ردّها إلى عصر النهضة، وأنها نشأت في حضن الفكر الديني نفسه في أوربا، أي من داخل الديانة المسيحية نفسها بالتحديد، مرورا بعصر الانوار. بيد أنه يشير أيضاً انّ “الهيغليين الشبان” هم الظاهرة الاجتماعية الاولى الاكثر تجسيدا لمفهوم المثقف في العصور الحديثة، رغم انّ مفهوم “المثقف” لم يكن معروفا في أيامهم. كما يربط ظهور “المثقف” مع ظهور الايديولوجيا والجامعة كظواهر أو مؤسسات اجتماعية متنامية. أما عن نشأة المصطلح نفسه، أي المثقف (intellectual) فيرده إلى مصدرين رئيسيين: المصدر الفرنسي للكلمة الذي نشأ مع القضية الشهيرة في الثقافة الفرنسية المعروفة بـ “قضية دريفوس”، والمصدر الروسي لكلمة (انتلجنسيا) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. علما انه يشير إلى انّ كلمتي المثقف .(intellectual) والانتلجنسيا (intelligentsia) تستخدمان اليوم بطريقة شبه مترادفة
هذه مجرد بعض شذرات عن هذين المفهومين، أي الثقافة والمثقف، على اية حال، مما تقدم بخصوص مفهوم “الثقافة” و”المثقف” يمكن رؤية انّ التعاريف العديدة للثقافة تتباين بشكل كبير وتتراوح من منظور واسع يراها كلَّ نتاجٍ بشري حضاري يميز المجتمعات البشرية عن الطبيعة وعالم الحيوان، أو تضيق إلى حد اعتبارها النشاطات المتعلقة بالآداب والفنون. ولكن بوسعنا القول انّ مفهومي الثقافة والمثقف يتعلقان أساسا بإنتاج واستهلاك واعادة انتاج المعرفة بأنواعها، وانّ المثقف هو الشخص المعني بإنتاج واستهلاك هذه المعرفة وتداولها، ومن ابرز هذه المجالات العلم والفن والدين، بتنوعاتها وتشعباتها. فهل ينطبق هذا التصور على مجتمعاتنا؟ في مجتمعنا العراقي على الاقل، كثيرا ما تطلق كلمة “مثقف” على متداولي الكتب او القراء او الكتاب، او على من اكمل دراسته الجامعية او ما بعدها. ولكن اذا رجعنا الى جوهر التعريف المتعلق بإنتاج واستهلاك واعادة انتاج المعرفة، كم من الفحوى يظل من ذلك في الواقع الفعلي؟