باتت صورة المثقف التظاهري جزءا لا ينفصل عن الواقع العراقي الجديد، ولا عن فضاء التظاهرات الكبرى التي تغمر المدن العراقية. فهذه الصورة هي الأكثر تعبيرا عن فكرة المواجهة الحادة مع تاريخ الفشل السياسي والاجتماعي، وحتى الثقافي، إذ تحولت هذه الصورة الى خطاب توصيفي، والى وعي بفاعلية التغيير، والى منظور لتعريف مفهوم القوة الخلاقة بوصفها المحرك الحيوي للتاريخ والاجتماع..
صورة هذا المثقف هي براديغم متعالي لرمزية جيل ثقافي جديد، جيل يرفض الانقياد للسائد، وللذاكرة السياسية والايديولوجية، أو حتى لبداهات الخطاب الادبي الذي فرض شكله وأداءه ووظائفه على سياق تداول «الصناعة الادبية»، وعلى قوة وفاعلية الممارسة الثقافية، في سياق تعبيرها عن الواقعة الادبية، أو في سياق تمثيلها واشتباكها مع الواقعة السياسية، ومع تاريخ هيمنة الايديولوجيا والعصاب والتاريخ.
علاقة هذا الجيل بـ» الثقافة» وبأنماطها الادبية والسحرية خرجت عن كونها علاقة غير آمنة، إذ أضحت بعيدة من التبعية وأوهام التصديق بالشعارات والسرديات الكبرى، فهو جيل أكثر وعيا بالمتغير، والمختلف، وأكثر تعبيرا عن ارهاصات المستقبل، وعن اسئلته العميقة، فضلا عن كونه الأكثر رفضا لأوهام البيانات الخادعة، فهو بلا كارزمات، ولا مركزيات تفرض خطابها القهري على الآخر، وتصطنع له نوع من المقدس» الشعري».
هذه الصورة التي يقترحها المثقف التظاهري تنقل لنا حدثا يوميا، وترسم لنا أفقا للآتي، إذ نجده في صورة البطل الاخلاقي، والبطل « الثوري» عبر وجوده في ساحات التظاهرات، وفي التعبير عن شعاراتها، وعن حيوية مشروعها الوطني، وعن اسئلتها الكبرى، وعن هوية « المشروع الثقافي» وفي أطار ما يحمله من برامج ومعطيات، والتي تحولت الى قوة دافعة للجمهور، ومحركة للقوى المجتمعية، وفي الدعوة الى فعل التغيير السياسي والديمقراطي، إذ بات رهان الديمقراطية وعيا بفعل التغيير، وفي تحفيز العملية السياسية على التحوّل في مساراتها، وفي طبيعة ما تطرحه من اسئلة، ومن أفكار تلامس الواقع، أو فيما تُعبّر عنه لمنظور جديد حول مفهومات الدولة والحرية والهوية والديمقراطية والعدالة والحق والسلم الأهلي، وهي مجالات تحتاج دائما الى سياقات الفعل، والى القوى المحركة والمؤمنة بها.
فعالية هذا «الجيل الثقافي» وأنموذجه التظاهري هو ما يجعله أكثر تمردا واستعدادا للمواجهة، ولنزع المعاطف الكثيفة التي تورطت بها الاجيال السابقة، إذ وجد نفسه امام رعب « الاحتلال» وصعود» السلفية الاسلاموية» و» الجماعات الاسلامية» و» عدوى الربيع العربي» مثلما وجد نفسه أمام استحقاقات بناء الدولة الوطنية، وتجاوز عقد المركزيات الطائفية والقومية والحزبوية، ومواجهة مظاهر العجز والفساد والرثاثة السياسية.
إن إثارة الاسئلة الجديدة حول فاعلية هذا الجيل في المشهد، هي ذاتها الاثارة التي نحتاجها في التعبير عن حقيقة وجود المثقف الجديد، المثقف غير السياقي، المثقف الفاعل في يومياته، وفي أهدافه، وفي بحثه عن منصات مغايرة لما نمطي، حيث تتحول قوة الثقافة الى فعلٍ خلّاق، مثلما تتحول قوة المثقف الى خطاب للوعي، ولإدراك مسؤولية الحرية، ومسؤولية النقد، وهي قضايا اشكالية، من الصعب التعاطي معها دون وعي باستحقاقاتها الثقافية والقيمية، ودون وعي بأهمية ما تطرحه مع أفكار تخصّ المعرفة والفلسفة، وتخصّ برامج التعليم والتنمية، إذ تبدو القوة أكثر عمقا في تلازمهما، وفي تعبيرهما الحقيقي والواقعي عن الاسئلة التي نحتاجها دائما، والتي تخص مسارات التجاوز والتأصيل، والوجود والتغاير..
فهل بدت صورة هذا المثقف الجديد واضحة للعيان؟ وهل يمكنه تمثيل صورة المحنة الوطنية وأزمة الخطاب السياسي؟ وهل طرحت تظاهرات الشارع العراقي أنموذجا لسيروة هذا المثقف الذي يحمل شعارات وأهداف حراك الثقافي، الحراك الذي يقوده جيلٌ يبحث عن المعنى والحرية والحق، مثلما يبحث عن العمل والحب والسلام الأهلي؟
علي حسن الفواز