في التاريخ السياسي العراقي ثمة محطات مضيئة يستشهد بها المؤرخون في كتاباتهم عن العراق لتعضيد الدور المحوري لمرجعية النجف الاشرف في التعاطي مع الأحداث التي شاهدتها البلاد خلال العقود المنصرمة ومنذ الاحتلال البريطاني للعراق عام 1917 ودخول القوات البريطانية المدن العراقية وجد العراقيون أنفسهم أمام مفصل تاريخي وسياسي وعقائدي تطلب منهم الإعلان عن مواقف واضحة تجاه هذا الاحتلال والافصاح عن موقفهم أيضا من الحرب بين بريطانيا والدولة العثمانية والصراع على ماتبقى من ارث الدولة المريضة. وبرزت على السطح مفاهيم عقائدية مستحدثة تتجسد بالمدارس الفكرية الدينية والمذهبية والحركات والمواقف السياسية والتنافس بين رجال الدين والمفكرين من المدارس المختلفة في التعامل مع احداث مفصلية ألمت بالعراقيين حيث اتخذ البعض منهج محاكاة الغرب وتقليد السياسات الأوروبية في التعامل مع الأحداث فيما فضل آخرون التمسك بتلابيب المدرسة الشرقية والانطلاق من ثوابت السلفية الإسلامية واتخاذها منهجا عاما لايمكن الانفصال عنه مهما تطورت تلك الأحداث وحدها بقيت مرجعية النجف مرجعية متحركة تستلهم من القرآن الكريم والتراث الثري لآل البيت ومدلولاته الانسانية العابرة للأديان والمذاهب والقوميات واستثمرت من الماضي ماينفع في الحاضر واتخذت من الاجتهاد الفقهي منهجا اتاح لها التجدد والحيوية ومناقشة جميع الأفكار المستحدثة وهي بهذا الانعتاق تميزت عن بقية المرجعيات الدينية الأخرى في العالم الاسلامي وصدرت من منظومتها الفقهية عشرات الفتاوى التي وحدت الامة ومنعت الانزلاق نحو الفوضى وثمة أسماء لمراجع كبار مايزال التاريخ يحفظ لهم مواقف عظيمة في احداث ضخمة احاطت بالعراق والعالم الاسلامي مثل الشيرازي والنائيني والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء والسيد محسن الحكيم والامام السيستاني الذي تميزت مرجعيته بقدرتها على الثبات في الدفاع عن مصالح الشعب العراقي مهما كانت المخاطر والتهديدات والتوازن والاعتدال في التعبير عن الخلافات الجسيمة التي شاعت بين العراقيين في الداخل وبين الدول التي لها مصالح مشتركة مع العراق.
واجتهد السيد السيستاني كثيرا في حفظ مكان ومقام المرجعية الدينية في النجف منذ أول يوم تقلد فيه الزعامة الدينية حيث بانت بشكل واضح قدراته في التعامل مع التنوع الاثني في العراق وتمكن من مواجهة الاستقطاب الطائفي الذي تولد من النزاعات السياسية والحزبية والحد من نتائج التجاذبات الاقليمية التي خيمت بظلالها منذ سقوط النظام السابق وتأكيده المستمر على وحدة العراقيين ووحدة العراق بوصفها المنجى والمخلص من الفوضى وممارسات التدخل في الشأن العراقي ولم تنفع كل محاولات جر المرجعية الدينية لمحاكاة وتقليد تجارب في دول مجاورة في تطبيق الدستور والقوانين بعد ان آمن السيستاني بأن العراق بلد منفرد في تكوينه الجغرافي وتنوعه الديني والاهم من ذلك اصراره على أن مرجعية النجف مرجعية روحية تسمو على العناوين تراقب ولاتتدخل الا في اللحظات المصيرية وهي ليست مؤسسة حكومية وليست حزبا سياسيا وتريد من العراقيين أن يديروا دولتهم بأنفسهم وان يصلحوا حالهم من دون أي تدخل خارجي وتؤمن بأن في الدستور الوسائل الكافية لتحقيق الاصلاح والتغيير من دون سفك دماء أو اية ممارسات محرمة وبالتالي فان كل الاتهامات الموجهة لهذه المرجعية تتطلب قبل توجيهها فهما عميقا لدورها قبل الانسياق وتأييد الافكار السطحية وغير الناضجة
د. علي شمخي