دبي ـ وكالات:
حين أقامت وداد الأورفلي عام 1983 قاعتها للعروض الفنية والتي حملت اسمها العائلي في حي المنصور الذي كان سكنا للنخب الأرستقراطية البغدادية كانت قد تجاوزت الخمسين سنة من عمرها، قضت الجزء الأكبر منه وهي تتنقل بين عواصم دول شرقية وغربية برفقة زوجها حميد عباس العزاوي الذي كان يعمل في السلك الدبلوماسي.
الرسامة بأناقة حضورها
غير أن صاحبة القاعة لم تطغ على الرسامة في شخصية وداد الأورفلي. فالأورفلي المولودة في بغداد عام 1929 كانت قد درست الرسم مرتين: مرة حين كانت طالبة في كلية الملكة عالية وكان معلمها الرسام العراقي الشهير خالد الجادر ومرة أخرى حين انتسبت إلى القسم المسائي في معهد الفنون الجميلة حيث تخرجت منه عام 1960. لهذا يمكننا القول إن تجارب الأورفلي في الرسم تعود إلى مرحلة كانت قد شهدت نضوج فكر وأساليب الحداثة الفنية الأولى في العراق. وهو ما يجعل البحث عن تفسير للقطيعة التي عاشتها الفنانة مع تحولات الفن في تلك المرحلة مبررا.
في سيرة وداد الأورفلي نجد ما يفسر وقوع تلك القطيعة. فالمرأة التي رافقت زوجها في تنقله بين بون ونيويورك وعمان ومدريد والخرطوم وتونس ولندن لم تعش حياة مستقرة تجعلها قادرة على الاطلاع على تجارب الفنانين العراقيين، بالرغم من أنها لم تقطع الخيط الذي يصل فنها بعدد من تلك التجارب وبالأخص ما كان معنيا منها باستلهام الجانب التراثي. فكان معرضها الشخصي الأول الذي أقامته في ألمانيا عام 1964 يحمل في طياته نوعا من الحنين إلى حياة فنية، كانت تود لو أنها لم تنفصل عنها. كانت وداد في ذلك المعرض لا تزال خاضعة لتأثيرات معلميها ولم تكن قد اهتدت إلى أسلوبها الشكلي الخاص.
بغداد المتخيلة وراء ضباب واقعها
تعدنا وداد الأورفلي اليوم بنشر مذكراتها. في عمر السادسة والثمانين لا تزال ذاكرتها متقدة، غير أن الأهم من ذلك أنها لا تزال قادرة على مداعبة أوتار العود بأصابع كفّت عن الرسم منذ سنوات. فالرسامة التي غادرت بغداد منذ أكثر من عقد من الزمان لتقيم في الأردن لم تعد تقوى على رسم مشاهد صارت بعد الاحتلال ضبابية. بالنسبة إليها فقد اختفت بغداد، مشهدا كونيا كانت تطل من خلاله على العالم. لا تزال أصوات تلك المدينة وحدها حاضرة في خيالها. لذلك تفضل أن تكون الموسيقية التي تجسد بأنغامها قيامة عالم من صمته على أن تكون الرسامة التي تصور انهيار ذلك العالم.
لن يكون مفاجئا أن نقرأ أن الأورفلي تستعد الآن لإصدار إسطوانتها الموسيقية الأولى. هل استيقظت طفولتها لتكون معادلا موضوعيا لزمن صار ينوء بعاطفته من غير أن يهبها معنى الخلود الذي انطوت عليه مباهج زيارتها الأندلسية؟
الشعر كونه خلاصا
منذ سنوات وهي تكتب الشعر باللغة الدارجة، تذكر قصائدها برسومها. إنها مدائح موجهة إلى مدينة ما كان عليها أن تختفي. كانت وداد في رسومها التي كانت تنفذها بصبر وأناة كما لو أنها تمارس الحياكة حريصة على أن تفلت من المعنى. المعنى الذي هو أشبه بقفص تعبيري. كان فيض عاطفتها يغطي على المضامين والأفكار. لذلك فغالبا ما يتخذ حنينها إلى المكان الذي اقتلعت منه طابعا رؤيويا يغلب عليه شعور عميق بالضياع. وهو ضياع يمتزج فيه المكان بالزمان ليشكلا وعدا بفردوس صار من الصعب تخيل وجوده.