ميثم الحربي *
1
إن مفهوم الديمقراطيّة الناشئة يتعرّى اليوم (مع أنّه كان بلا أردية) إلى عشائر وطوائف تواصل تقديم نمرتها على السّاحة العراقيّة التي كانت تلهج طوال هذه السّنوات بنغمة (المعايير الحديثة) المبحوحة. وقد أطاح ذلك بالثّرثرة السّعيدة حول حصر السّلاح بيد الدّولة الذي لاينحصر اليوم سوى بيد الدّولة والشّعب وداعش والامتدادات الإقليميّة والدّوليّة حيث حضر الكلّ إلى الكرنفال وبدأت الحفلة على أرض العراق.
2
بعد عقد ونيّف يمرّ على الاجتياح الأمريكيّ للعراق، تبرز مع قضيّة التهام حُوت الجماعات الإسلاميّة لمدينة النبيّ يونس صلافة البعث (كأحد الأطراف المُعلنة وسطَ هذه الحوْمة) الذي لفّق نفسه في متون تلك الجماعات على تكرار سيناريو وحشي معلّقا تحرّكه هذه المرة على مشجب الدّفاع عن حقوق عنصريّة الطائفيّة المُذعِنة ضدّ عنصريّة الطائفيّة المُسيطرة، مستفيدا من فسحة الارتخاء الانتقاليّ لحدث الانتخابات في العراق، وبيئة الانحلال القيميّ التي كان عرّاب نثر بذورها السّامة طوال ربع قرن كابوسيّ، وكذلك الأموال والسّلاح وتيّار الذّيول الثقافيّة والإعلامية الغليظة ومناخ الأصوليّة الإسلاميّة العارم الذي يضرب المنطقة. واليوم لم يكن حدث الموصل سوى نتيجة فادحة توّجت على مدى أحد عشر عاما سلسلة طويلة من الفوادح وحمّامات الدم ارتكبت باسم الديمقراطية الناشئة التي لم تنبثق سوى من المحاصصة، (ذلك الخطأ البسيط لا أكثر!)، الذي رفس الخطاب الوطنيّ إلى العراء وأطلق عليه الرّصاص الكثيف من جميع الجوانب. ومازالت حزمة من العوامل المتداخلة تريد ببلد مثل العراق أن يكون مَصيفا دائما للحروب، والفقر، والاستلاب، ومتحفا للمذبحة. وهذه العوامل تكون في عموميّتها أسبابا محلّية، ودوليّة، وإقليميّة.. وتكون في خصوصيّتها فواعلَ ناتجةً من آثار الأصوليّة الإسلاميّة التي هي أثرٌ – بحسب بيير بورديو- من آثار الإعلام الرّأسمالي، بل إنّ هذا الإعلام روّج وسوّق هذه الأصوليّة أكثر ممّا فعل المُنتسبون إليها.
3
في التسعينيّات أطلق صدّام حسين (الحملة الإيمانيّة) ونصّب نفسه أمام المرآة قائدا مؤمنا لها تخرّ التقوى من أذنيه، ونور مخافة الله يشعّ من حزامه العسكريّ على شكل مسدّس هاديء. ولقد كانت التسعينيّات أفقا انتعشت في داخله تلاوين مختلفة من الجماعات الإسلاميّة من ذوات وحيدة الخليّة. وبعد عقد التغيير تواجه تجربة التّطلّع إلى العراق الجديد تحدّيات خطيرة وهي تواجه تنظيم داعش ومن يحذوه حذو الحافر على الحافر أو إن شئت حذو الحصان على الحصان حيث يُراد للعراق أن يكون مجرورا موحشا لتبادل الجثث، وضيعة مُتاحة لكل العقائد البربريّة التي تسكن خارج التاريخ.
4
من زاوية أخرى يجب القول مرارا وتكرارا إنّ الإرهاب المُباشر الذي تتثاءب أشرس حيواناته المفترسة في هذه البلاد اليوم، كان نتيجة وثيقة الصّلة بإرهاب من نوع آخر هو: الإرهاب الثقافيّ. وهو أخطر أنواع الإرهاب الذي يتلف بعمق روح وجسد الكائن العراقيّ على مختلف امتداداته ومشاربه. فمنذ 2003 تنافح المافيا التي ترتاح بانضوائها تحت مسمّى (الأنتلجنسيا) بأنها تدعم التّجربة الجديدة، وبعد وصولنا إلى هذا المنعطف الخطير يتضح أنها لم تكن تدعم سوى نفسها، وانهمكت بحماس حلْو بلعْق عظْمة أوهامها النّرجسيّة المرميّة على عتبات مُختلف جهات النّفوذ بوجهها المحلّيّ والإقليميّ. إنّ الإرهاب الثقافيّ وهو يمتلك (يورانيوم التّبرير) الذي يحسن مضغه وإنتاجه عن طريق (اللّغة) كان ماهرا بإطلاق الرّصاص الرّمزيّ على الجموع البريئة التي تتقافز من مرحلة ساخنة إلى أخرى في عالم الأمس الاستبدادي ومن منطقة ساخنة إلى أخرى اليوم هربا من المحاكم الشّرعيّة المخبولة للإرهابيّين التي تريد ذبح الأبرياء في الهواء الطّلق أينما سنحت الفرصة.. على شارع عامّ، أو في زقاق ضيّق، أو أي سبخة، أو بستان مهجورة.
5
وفي خضمّ ذلك لايمكن التّصديق هذه الأيام بأنّ (الديمقراطيّة النّاشئة) هي عبارة عن جسم كامل النّقاء من الفايروسات التي تنخر في كيانها الوليد عبر شتّى القرارات البعيدة عن الحكمة، والتّوجّهات الضّيّقة التي أسهمت في خلق بيئة مظلمة انتعشت فيها من جديد كلّ المخلوقات الضارّة. وعلى هذا الاساس لابدّ من الفهم أنّ حدث الموصل يشبه كثيرا في حدّته العالية حدث 2003 أو لنقل ربّما أبعد من ذلك. وهذا الأمر سيعكس شروط تغييره المقبلة التي ستطال جميع المؤسّسات السياسيّة، والأمنيّة، والإعلاميّة، والثقافيّة، والاجتماعيّة، والاقتصاديّة.. ومن المبّكر حاليّا البتّ نهائيّا لما سيكون عليه الحال على الرّغم من وجود معطيات كثيرة قد تسهم في صنع مقاربات أوليّة لما ستؤول عليه الأمور. أمام ذلك ليس بوسع لغة الأحلام أن تتمنّى إنزال السّتار إلى الأبد على زمن شيوع رفع السلاح الذي جعل ويجعل العراق عبارة عـن بقعـة هائلـة مـن الدمـاء والتدمير والخراب الشّامل الذي لايكف عن قطـع تذاكـر الآخـرة السّريعـة للأجيـال جيـلا تلـوَ آخـر.
6
إنّ تنفيذ برنامج (العدالة الانتقاليّة) يرتفع اليوم على المسرح المحلّي كأحد الإشكالات الرّئيسة الذي يعاني الجميع من طريقة تنفيذه. وقد كانت الطّامة بحصر موضوعه محلّيا وعدم معالجة قاعدته داخل الحوض العربي فحضَر الثّأر بأسلحته إلى البيئة التي نهشها وباء اللاّمسؤوليّة الذي أسهم في إبقاء السّؤال الضروري مستبعدا حول كيفية نشوء علاقاتنا السّوسيولوجيّة إبّان سيطرة حزب البعث على مقاليد الحكم في العراق؟.
وفي هذا الجانب قدّم لنا نيلسون مانديلا دليلا ما نحاول في ضوئه فهم مفهوم العدالة الانتقاليّة حيث تمّ تقديم درس في غاية الأهميّة عندما بُني مفهوم الصّفح على سؤال مفاده: هل الثّأر حتمي؟ فعلى الرّغم من الظّن والافتراض أنه قد تأصّل أخيرا في الطّبع الإنسانيّ عبر جذريّات إقصائيّة فقد يحدو المرء الأمل بأنّ إحدى أهمّ إنجازات خبرة (الثّقافة الحيّة) ستكون بمحو الثّأر والحكم عليه بالغياب الضّروري من شاشة الوجدان. ولقد قيل دائما إنّ القطار الأمريكيّ نزل منه البعث، لكن لا أحد كان يذكر أنّ العربة التي نزل منها كانت مُجهّزة بعروبة وإسلام كيّفهما البعث على طريقته وأسس بهما ترسانته الدّاخليّة والخارجيّة، واليوم توجد عربة أخرى مليئة بالنّعرة المذهبيّة التي تضرب في المنطقة خيمتها الكالحة. وانطلاقا من ذلك تبقى مسؤوليّة الثّقافة كبيرة في صناعة الوجدان الخلاّق ورسم بيئة اللاّعنف كي تتأبّد وتنزوي قواميس العدوانيّة تحت مطمر بعيد، لأن من سوء حظّه أنّ التّاريخ – كما يُقرّر ديفيد مكرينولدز- مازال يحتفظ بالنّزاع كمحرّك لمسيرته إلا أنّ هناك آفاقا أكسبت عمليّة إدارة النّزاع بعدا جديدا مـع دخول اللاّعنف كاستراتيجيّة فعّالة للوصول إلى حل، ولكن لا نريد التحوّل إلى ممجّدين للألم حتى لو كـان ذلك باسم العدالة، فالعدالـة ليست هي الثّأر أبدا، وإذا كنا نريد التّغيير لابدّ من التّحرك إلى الأمام ونعبر بحقّ الخنادق الضيّقة لننجو مـن الـدّوران في حلقة الثّأر المغلقـة. وهذا التحرك لايمكـن أن يصير من دون تجـاوز لأنّ العدالـة هـي السّعـي لتحقيـق شـروط أكثر إنسانيّـة وإصلاح ما أفسده غيرنا وليست تغييره بإفساد مقابل.
7
البلاد اليوم تمرّ بنوع خطير من الأزمات لأنّها ذات طابع خارجي تم تدويل شأنها فتنظيم داعش يظهر على شكل مادّيّ بعد أن كان نثارا من الأفراد يبرزون في وادي حوران مرّة وفي مناطق مبتسرة المساحة هنا وهناك مرّة أخرى؛ الأمر الذي يتطلّب مراجعات مسؤولة وسريعة فيما يتعلّق بالعلاقات الخارجيّة لأنّ الحلّ المحلّيّ على ضرورته القصوى لا يكفي مالم يتمّ العمل بشكل مواز على ملفّ الخارج. وقد أكد ذلك المبعوث الأمميّ الأخضر الإبراهيميّ الذي ذكر قبل أيام أنّ هجوم الجماعات المسلّحة في العراق كان نتيجة العجز لدى المجتمع الدولي عن إيجاد حلّ للأوضاع في سوريا، وتزامن ذلك مع ردود الأفعال الأوربيّة التي حذّرت من نشوب حرب إقليميّة بالوكالة وطالبت تركيا ودول الخليج بالمساهمة في ترسيخ الاستقرار في البلاد. وتبقى المسألة المهمّة الأخرى تتعلق بالوضع المزري للنّازحين من مناطق المواجهات بحثا عن أماكن آمنة، إذ يتطلّب العمل على توفير المساعدات العاجلة وتوفير الممرّات لآليات الإغاثة. ولأنّ الهجمة ذات طابع خارجيّ يقف الإعلام كرأس حربة وسلاح ذي حدّين في إدارة تناغم ما يحدث من وقائع وتداول معلومات حيث يتطلّب العمل على بذل المزيد من الجهود كون الجمهور اليوم بات استهدافه واضح المعالم عبر تقنيّات خطيرة تستخدم الخوف والإرعاب، وبثّ الشّائعات، وتغذية مشاعـر العنـف، وتدليـس الحقائـق.
إنّ تعدّد العراق وتنوّعه اليوم يبرز على شكل إشكاليّة حسّاسة بعد أن كان هذا التّعدّد رافدا حيويّا لبناء حياة حَضريّة في يوم من الأيّام كما تقول حكايات الشّتاء الجميلة، وعلى هذا الأساس وبعد عمليات التأهّب والتّطوّع والتّدريب والتّسليح التي سارت في كل الأماكن يتحتّم التّعامل معها بحذر شديد والاستجابة إلى دعوات (تجنّب المظاهر المسلّحة خارج الأطر القانونيّة). إنّ العراق اليوم لم يولد من 2003 كلحظة عارية عن أيّ سايكولوجية منبتّة الصّلة عمّا تعرّض له أفراده من خراب شامل في زمن البعث نشب مخالبه الرهيبة في روحه وحطّم له أعز مايملك: الكرامة. لذلك تكمن الخطورة في تكاثر أعداد العازفين على الأوتار الحسّاسة وعرّابي صبّ الزّيت على النّيران، الذين يجدون في اليباس العارم مادّة قابلة للحرق حيث إنّ العشائر والطّوائف وغيرها من جيوب الانتماء تبدو عصيّة بعد عقد ونيّف على أن تتشكّل نهائيّا في كيان اسمه الدّولة وإلى الآن ينقل لنا كلّ من الميديا والواقع أنّ التّجاذبات المنبعثة من حالة الدّولة داخل الدّولة التي رافقت التّجربة بدت مزمنة وهي المادّة الأساسيّة التي تدير دفّة التّلاسن السياسيّ في البلاد. في المقابل تبدو عمليّة تنضيف الفوضى لاتمتلك الرّغبات ولا المكنسة!
*كاتب عراقي