سلام مكي*
ما ان خلع النظام السياسي العربي رداءه الذي نضبت ألوانه والتصقت به على مدار عقود عدة، وهو رداء الرجعية والقومية التي أفرزت أنظمة شمولية دكتاتورية، وارتدى لباس الإسلام السياسي حتى تفجرت أسئلة مركزية، شكلت فيما بعد عبئاً على العقل العربي، فالإسلام السياسي الذي تمثله أحزاب وتيارات راديكالية، ولا تؤمن بالديمقراطية كخيار أساسي لبلورة نظام سياسي وحتى اجتماعي، ولكنها تأخذ منها أمراً واحداً،
وهي الانتخابات بوصفها الوسيلة الأنجع للوصول الى الغايات الكبرى لها، هذه الأسئلة هي بالأحرى إشكاليات تبدو عصية على الفهم والحل، وإلا، كيف يمكننا ان نتخيل ان الدولة التي نصبت نفسها شرطية على العالم، لكي تحمي حقوق الشعوب بالحرية والديمقراطية وتتدخل في شؤون الدول لغرض حماية تلك الحقوق من اغتصاب السلطات المحلية لها، ان تدعم تلك المنظمات في الوصول الى الحكم؟ كيف يمكن للولايات المتحدة التي تمثل ذروة الرقي السياسي والاقتصادي في العالم ان تدعم دولة رجعية لا توفر لشعبها الحرية ولا حقوقه السياسية، وتدعم التنظيمات المتطرفة وتؤمن بما يسمى الجهاد ضد المخالف لها؟ كيف تساعد الولايات المتحدة دولا على التخلص من الدكتاتورية لتجعل بديلها دولة دينية قائمة على التمييز بين المواطنين على أساس الإيمان؟ الإسلام السياسي،
كظاهرة سياسية واجتماعية لم يكن له وجود لولا الجهة التي يقول بأنها ( كافرة وملحدة) فالجهة التي ترتدي اليوم عباءة الإسلام السياسي، كانت الى عهد قريب عارية، وبلا جسد، لولا ان الولايات المتحدة، قررت ان تسترها بعباءة من صنعها، لتكون لها أداة من أدواتها البدائية في تنفيذ مخططاتها. بقيت المشكلة الأكبر وهي من يدخل في تحت العباءة ومن يخرج منها! العراق السياسي الذي تشكل بعد التغيير، كانت لديه فرصة تاريخية لصنع سلطة مدنية على أنقاض السلطة الدكتاتورية، خصوصاً وان الشخصيات الليبرالية هي التي كانت متصدرة للمشهد السياسي للمعارضة، وكانت الأحزاب الدينية هي مجرد أرقام تحضر في المؤتمرات، لو ان تلك القيادات أحسنت التصرف في أشد اللحظات حساسية، عندما قرر المندوب السامي الأميريكي بول بريمر اختيار الشخصية التي ستقود أول حكومة بعد التغيير، وبرغم انه اختار فعلا شخصية تبدو علمانية، إلا ان تاريخها المكبل بالبعث لم يسعفها لمجاراة الشحن الطائفي الذي مارسته الأحزاب الشيعية على الشارع،
وتصويرها للانتخابات بأنها الفاصل بين العودة للعبودية وبين عبر السماح لمرشحي الطائفة الأخرى بالفوز أو باسترداد الحق المغتصب عبر انتخاب القائمة التي تضم كل سياسيي الطائفة. فكانت تلك القائمة هي البذرة الأولى لمشروع الإسلام السياسي في العراق. هذا المشروع الذي أسسته أحزاب ذات خلفيات أيديولوجية ، عقائدية، لا تؤمن بالتعددية، تقسم الناس الى فئات حسب انتماءاتهم الدينية لا الوطنية، يقودها أشخاص ليس لديهم أية خلفية سياسية، وكذلك أغلبهم بلا تاريخ، سوى أنه كان ينتمي الى ميليشيات كانت تتخذ من دول الجوار مأوى لها، ولكون المعارضة يقودها العلمانيون ويتحدثون باسمها في المحافل الدولية، لأسباب كثيرة منها أن الأحزاب الدينية لم تكن تملك شخصيات مقبولة لدى المجتمع الدولي وخصوصاً الولايات المتحدة، او بالأحرى شخصيات تؤمن بأن الديمقراطية هي الخيار الأنسب للشعب العراقي،
لا الحكومة الدينية! وأسباب تعود الى تلك الأحزاب نفسها، ففي عقيدتها السياسية المأخوذة من عقيدة النظام الإيراني ومؤسسه، ترى بأن الولايات المتحدة والغرب يمثلون قوى الاستكبار العالمي والامبريالي، وهي دول كافرة عدوة للإسلام، فغير جائز شرعاً التعامل معها، وبذلك غابت تلك الأحزاب عن الساحة السياسية حتى في الأشهر الأولى للتغيير، لولا السياسة الخاطئة لبعض القوى العلمانية، التي استبدلت في اللحظات الأخيرة المشروع الوطني بالمشروع الطائفي، انتصرت لطائفتها على حساب الوطن، ظنا بأنها الطريق الذي سيوصلها الى السلطة، متناسية بأن الشارع لا يغفر لمن كان علمانياً يوما! كما ان الأحزاب الدينية قد أوقدت في الأذهان الشعارات التي حملها المنتفضون في سنة 1991 عندما أعلنوا بأن هدفهم الأساسي هو السلطة! مع فرق ان الشعار الأول رفع في وقت كان النظام شاهراً فوهات دباباته ومطلقاً في السماء طائراته لقطع كل يد حملت تلك الراية بمباركة القوى العالمية وبين اليوم الذي لا وجود فيه لأحد سواهم! وان الجهة نفسها التي باركت قصف المنتفضين في ال91 هي نفسها التي تبارك لهم اليوم شعاراتهم! العقد الذي انتهى،
يبدو كافياً لتجذر الإسلام السياسي في المجتمع العراقي، ويجعل له قاعدة جماهيرية واسعة، نعم واسعة برغم ان رجالاته لم يتركوا أي أثر في ذهن تلك الشريحة ولم يردوا لها الجميل، وهذا طبيعي، لأنهم لم يجدوا من يقول لهم: لا! فتصوروا بأنهم الحق المطلق. ولكون الانتخابات، تمثل منعطفاً مهماً، في رسم السنين الأربع المقبلة، فان مدة الدعاية الانتخابية التي حددها قانون الانتخابات من اليوم الذي يلي تصديق المفوضية على أسماء المرشحين الى اليوم الذي يسبق الانتخابات أو ما يسمى بيوم الصمت الانتخابي، قد عرت الإسلام السياسي، وأحرقت عباءته المطلية بالألوان، ولكنها سواء من الداخل. فالسمة البارزة ان تلك العباءة لم تخجل حين دخل فيها المزورون، والفاسدون،
والمتهمون بالفساد المالي وحتى الأخلاقي، ولم تخجل حين سمحت للفاشلين بأن يتوشحوا بها مرة أخرى برغم فشلهم الكبير في تحقيق أي شيء لناخبيهم. وليس ببعيد، حيث قائمة، كانت تشكل العقل المدبر لمشروع الإسلام السياسي، وضعت تحت عباءتها شخصية مضى على وجودها عقد كامل، ولكنها فشلت في عملها، للصالح العام، ونجحت في منح شريحة واسعة من الناخبين مزايا خاصة تضمن من خلالها أصواتهم، وتضم أيضا، شخصية تعلن صراحة أنها فاسدة من خلال بناء العقارات والقصور على أطلال خربته التي لم تمض على هجره لها سوى بضع سنين، تم طرد هذه الشخصية من قبل حزبها الأول لأن رائحتها فاحت على الجميع ولأن ورقتها قد احترقت! ولم تبخل على أي مرشح حتى لو كان تاريخه أسود، وشخصية صدرت بحقها أحكام بالسجن نتيجة لقيامها بتزوير شهادتها المدرسية التي بموجبها تسلم منصباً مهماً في الحكومة المحلية ولولا رحمة العفو العام، لكان الآن متعفناً في السجون.. لقد فعل الإسلام السياسي في عقد واحد ما عجزت الدكتاتورية عن فعله لعقود طويلة، عندما نجحت في جعل الناس تنفر من الدين ومن رجاله، برغم ان صدام حاول جاهداً الوصول الى هذه النتيجة ولم ينجح. ما على الناس القيام به بعد ان اكتشف ما تخبئه تلك العباءة ان يبادر الى قلع الفكرة التي تم زرعها منذ الشهور الأولى للتغير وألا يسمح للإسلام السياسي بالوصول مجدداً الى السلطة.
*كاتب عراقي